فلو أن أمة سمعت منك فتوى في حلال، فعملت به، نلت أجور كل من عمل بها إذا أخلصتَ، ولو أن أمةً سمعت منك فتوى في حرام أن الله حرمه وأردت ما عند الله وأنت تتكلم، فكل من عمل بذلك الأمر واجتنب ذاك المنهي، فإنه في ميزان حسناتك، فبالإخلاص يخط المفتي في صفحات أعماله أجوراً لا يعلمها إلا الله جلّ وعلا.
ومن ثمرات الإخلاص: حسن البلاء.
فإن الفتوى التي يفتي فيها أهلها وهم يريدون ما عند الله، الغالب أنه يكون لها أثرٌ وقبولٌ عند الناس.
ولذلك تجد بعض المفتين إذا أفتى أصْغت له الآذان، وارتاحت له القلوب، واطمأنت لكلامه النفوس، وعملت وتمسكت بما يقول، وذلك -والله أعلم- لما في القلوب من عمارتها بالإخلاص لله جل وعلا، وهذه ثلاث ثمرات لمن أخلص لله في فتواه.
المَعْلَمَ الثاني: البصيرة في العلم:
فقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن فتوى الجهلاء ضلالة، وأن الأمة تضلّ إذا تقلد الفتوى فيها الجهلاء، والعكس بالعكس، وتهدَى إذا تقلد الفتوى فيها العلماء.
البصيرة: فمن هذه الساعة ولو بقي لك في هذا المعقل من معاقل الإسلام ([90])، لو بقيت لك سنة دراسية واحدة من هذه الساعة توطّن نفسك على زيادة العلم والتحري والبصيرة، علّك أن تنقل علماً نافعاً ينفعك الله به في الدين والدنيا والآخرة، تفتح قلبك وسمعك وفؤادك للعلم فتنهل منه، لا تنكَفّ عن قليل فيه ولا كثير، فالذي يريد تقلّد الفتوى يفتح قلبه لأنوار الوحي من الكتاب والسنة، ويتعطش لكل مسألة، ولا يقف أمام السائل، ويقول هذه مسألة لا أحتاج إليها، هذه مسألة لا أعمل بها، كل مسألة هيّئ من نفسك أنك غداً مسؤول عنها، في العقيدة، في الأحكام، في الآداب، والأخلاق.
جميع ما تراه من قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم تعيشه وتفتح قلبك لوعيه وضبطه على نور من الكتاب والسنة. قال الله تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) [ق:37]، وعظة لمن أراد السداد والنجاح والفلاح أن يشرح الله صدره لوعي العلم.
المَعْلَمَ الثالث: الورع:
وهو غذاء الفتوى وأساسها، فإذا سئلت عن أي أمر لا علم لك به، ولو سُئِلتَ على رؤوس الأشهاد تقول بكل عزة وإباء: الله أعلم ([91]).
وليكن عندك الفرح أن تقول في المسألة: الله أعلم، أكثر من فرحك أن تجيب عليها؛ لأنك إن قلت: الله أعلم، فقد سَلِمْتَ وسَلِمَ الناسُ منك، وإن قلت فيما لا علم لك فقد تحملت المؤونة ([92])، ولذلك قال بعض السلف: حق على من أفتى أن يقيم نفسه بين الجنة والنار، فينظر سبيله فيها، حق واجب وفرض عليه.
ولذلك كان من الداء والمقتلة للإنسان أن يجيب في كل ما سئل عنه؛ لأنه لا بد أن تكون هناك مسائل لم تطمئنّ بعد إلى قول فيها وتفتي به. قال ابن عباس وابن مسعود فيما أثر عنهما: (من هذا الذي يجيب الناس في كل ما سألوه أمجنون هو ([93]))؟ أي: لا عقل عنده.
كذلك من الورع أن يكون على علم وبصيرة بالسؤال، فلا يفتي في مسألة حتى يكون ملمّاً بأطراف السؤال الذي نزل بك، فلا تحكم على شيء إلا بعد تصوره.
ولذلك من القواعد التي قررها العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فلا تدخل ولا تبدي رأيك في أمر لم تتصوره بعد، تنتظر حتى ينتهي السائل من سؤاله فتنظر أهذا السؤال مما تعلمه، فتجيب، أم مما لا تعلمه، فتكفّ عنه، وتتورع عنه.
المَعْلَمَ الرابع: معرفة المصالح والمفاسد المترتبة على الفتوى:
فقد تكون الفتوى من علمك، ولكن الجواب فيها يحدث مفسدة عظيمة على الأمة، فتتلطف وتحسن المخرج منها بجواب تعذر فيه إلى الله، ومع ذلك لا تقع الأمة به في فتنة.
ولذلك نبّه العلماء على أنه من آكد ما ينبغي على المفتي أن ينظر إلى أثر فتواه، فكم من فتاوى يسمعها العوامّ فيحملونها على غير المحامل، ويُحمّلون كلامها من التفسير ما لا تحتمل، فليس المهم أن تعرف المسألة وتعرف حكمها فقط، ولكن الأهم أن تعرف ما الذي يترتب على هذا السؤال؛ لأن الله بعث الرسل، وأنزل الكتب من أجل المصالح ودَرْء المفاسد.
فإذا أصبحت الفتوى تفضي إلى المفاسد، وتقطع عن العباد المصالح فليس ثم ما يوجب ذكرها في هذه الحالة الضيقة المخصوصة.
¥