لقد كان سلفنا في تعليمهم يربطون الدنيا بالدين والعقيدة بالشريعة، ويوجهون التلاميذ إلى الجمع بين الأمرين ففي عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما كثر الناس عنده يدرسون ويتفقهون في الدين أمر بعضهم أن يشتغل بالليل ويطلب العلم بالنهار، كما أمر آخرين أن يعملوا ويتكسبوا بالليل ويطلبوا العلم بالنهار، حتى صارت دنياهم دينًا، ودينهم حياة وعملاً، فهل من المشايخ اليوم من يُعنى بأحوال طلابه، ويتعرّف على ظروفهم وأحوالهم المادية، ويوجّههم لما يقضي على البطالة في دنياهم؟ إن الجمود والتقليد وإهمال جانب الحياة في التعليم أنتج الضعف والشلل في حياة المجتمع اليوم.
لقد حطم أجدادنا بالأمس أوثان الحجر والشجر وعبدوا الله في الأرض، فلماذا لا يحطّم الأبناء والأحفاد اليوم أصنام الكفر والإلحاد ويعبدون الله كما عبدوه؟
وإن الدورات العلمية المكثفة التي انتشرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا أراها ظاهرة طيبة، وتبشر بمستقبل واعد للأجيال القادمة –إن شاء الله- إن طُوّرت مناهجها وأساليب أدائها، وهي بداية جهد مشكور لإحياء الحلق العلمية على المشايخ والعلماء.
هناك من يرى أن هذه الدورات جاءت مواكبة لروح العصر السريع. فمارأيكم؟
ألا ترون أن هذا المنطق يتعارض مع القاعدة العلمية، وهي أن ما أُخذ بسرعة ذهب بسرعة؟
أما أن هذه الدورات العلمية المكثفة جاءت مواكبة لروح العصر فغير صحيح؛ لأنها لو كانت مواكبة لروح العصر لاستغلت الوسائل العصرية والتقنية الحديثة ووسائل التجديد والتحديث، ورسّخت عن طريقها الثوابت والقواعد الشرعية وآداب الجدال والمناظرة مع المخالف مسلماً كان أو كافراً كما أقرها القرآن الكريم. ولو كانت مواكبة لروح العصر لانعقدت دورات التخريج في الحديث النبوي عن طريق الحاسب داخل المسجد، ولو كانت مواكبة لروح العصر لنُمّيت في طلاب هذه الحلق العلمية المكثفة روح النظر والاعتدال وعدم الجمود والتقليد؛ إذ يمضي زمن الدورة وينتهي الملقي (الشيخ) من شرح الكتاب، ولا تعليق ولا مؤاخذة واحدة يسمعها الطلاب من شيخهم عن الكتاب أو مؤلفهم، وكأنهم يتلون كلاماً معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونسي الملقون والمتلقون على السواء أن المتن والشرح الذي بين أيديهم من تأليف واجتهاد من ليس بمعصوم، وأين هؤلاء جميعاً من كلام ابن القيم الجوزية -عليه رحمة الله- وهو يقول في أعلام الموقعين (3/ 89) مؤنباً لهؤلاء وأمثالهم: "لا تجمد على المنقول من الكتب طول عمرك .. فالجمود على المنقولات ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين .. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول من الكتب مع اختلاف أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائنها فقد ضلّ وأضلّ،.
وما رأيك في نوعية المتون المختارة للشرح في الدورات العلميّة؟
أما اختيار المتون المقررة في هذه الدورات العلمية فهي في جملتها كتب جيدة وعلمية مفيدة، وإنما العيب والقصور في كيفية وآلية التعامل معها، فنجد طريقة دراسة أكثرها تدرس بمعزل عن واقع الطالب، وكأنه يعيش زمناً غير زمنه ومجتمعاً غير مجتمعه. خذ أمثلة على ذلك: مفهوم (الجهاد) وأنه فرض عين على كل مسلم في الأرض حين يحتل الكافر بلداً من بلدان المسلمين. ومفهوم (بيت المال) و (الوطن) ... الخ، فالكتب التي تُدرّس ألغت يوم كان للمسلمين في الأرض كلها خليفة أو إمام واحد فتغير الزمان والحال والمكان، ولم يتغير الشرح والبيان وجمد الناس على (ليس في الإمكان أفضل مما كان)!
هل ترى أن هذه الدورات مظهر من مظاهر التجديد العلمي؟
لا أرى أن هذه الدورات -بوضعها الحالي- يمكن أن تُحسب من مظاهر التجديد العلمي؛ لأنها نسخة مكررة لعصر المؤلف الذي سبقنا بمئات السنين، مع أن كلاً من الملقي والمتلقي هرب من واقع عصره إلى واقع غير واقعه، في حين أن المؤلفين السابقين من السلف عاشوا مشكلات عصرهم وناقشوها وحاوروا بني جلدتهم في زمنهم.
هل يمكن لهذه الدورات العلمية أن تقدم لطالب علم اكتفى بها مادة شرعية كافية؟
وهل تعتقد ان هذه الدورات تسهم في بناء تأصيل شرعي متكامل لدى المتلقي؟
¥