الصنائع) من زاوية أخرى، فيقول: (ولا نعني به حقيقة النماء؛ لأن ذلك غير
معتبر، وإنما نعني به كون المال معدّاً للاستثمار بالتجارة أو الإسامة؛ لأن الإسامة
سبب لحصول الدر والنسل والسِّمَن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب
مقام المسبب ويعلق الحكم به، كالسفر مع المشقة .. ونحو ذلك) [10].
إن تأثير هذا الضابط على الأموال التي تجب فيها الزكاة يتمثل في مدى
شمولية واتساع الأموال الخاضعة للزكاة، وهو مجال اختلف فيه الفقهاء، فمثلاً لا
يأخذ ابن حزم بشرط النماء، وإنما يطبق الزكاة على الأصناف التي أخذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم- الزكاة، وبالتالي: فهو لا يوجب الزكاة، على الأصناف
الأخرى، أما من جعل من ضوابط المال الخاضع للزكاة ضابط النماء: فقد أفسح
المجال لخضوع جميع الأموال مهما تنوعت وتغيرت أنماطها، وقد دلت آيات
القرآن الكريم والأحاديث التي أوجبت الحقوق في الأموال على ذلك، ولا يتم
استثناء بعض الأموال من الزكاة إلا بدليل شرعي يخرجها من هذا الضابط.
الضابط الثالث: بلوغ النصاب:
يضع هذا الضابط حدّاً للمال الذي تجب فيه الزكاة، والذي يتمثل في بلوغ
النصاب، فإذا بلغ المال هذا الحد وجبت فيه الزكاة، وما لم يبلغه المال فلا زكاة
فيه، وبالتالي: فإن مقدار الزكاة يتفاوت بتفاوت المال وفق تفاوت الأنصبة، وقد
حددت السنة الأنصبة لمختلف أنواع الأموال بحيث لا يستوجب المال الزكاة إلا إذا
بلغها، كما ربطت الأنصبة بجنس المال.
إن اعتبار النصاب أحد الضوابط في اشتراط وجوب الزكاة فيه إرشاد إلى
الغاية من فرض الزكاة، فالغاية منها: تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة،
وقيام أغنياء الأمة بكفالة فقرائها والمحتاجين من ذوي النوائب.
ومقدار الأنصبة وتحديدها قد يفهم منه الإرشاد إلى الحدود الدنيا لكفاية الإنسان
وضرورة الاسترشاد بذلك بدراسة حجم الأموال التي تخرج الإنسان من دائرة الفقر
إلى دائرة الغنى.
إن من الإشكاليات التي تطرح حول مقادير الأنصبة: ثباتها، فمثلاً: إن قيمة
مئتي درهم أو خمسة أوسق قد لا تكفي حاجة الإنسان إذا نظر إلى أن الأنصبة تمثل
حدود الفقر والغنى، وعليه: فهل يمكن رفع مقدار الأنصبة بما يعادل الزيادة في
تغير قيمتها بمرور الزمن؟.
إن هذا التساؤل مهم إذا نُظر إلى الأنصبة باعتبارها حدود الإعفاء، واعتبار
الزكاة ضريبة، أي: نظر إلى الزكاة باعتبارها أداة من أدوات المالية العامة،
وبالتالي: فيعتبر النصاب هو حد الإعفاء، ومن هنا: ينبغي النظر في رفع
النصاب باعتباره حد الإعفاء وفق التغير في قيمة السلع والمنافع.
إن الرد على ذلك وفق ما أشرنا إليه في الحلقة الماضية: أن أصل الزكاة
عبادة، يجب على الفرد المسلم أداؤها إذا توفر لديه النصاب، وتحديد النصاب أمر
توقيفي، لذا: تظهر ضرورة قياس أنصبة الأموال المستجدة بالأموال التي ورد فيها
النص.
إن بعض الباحثين المعاصرين عند مناقشته لأنصبة الزكاة أو التعرض لأحكام
الزكاة ينظر للأمر من زاوية التشريعات المالية المعاصرة، وبموجب هذه النظرة:
فقد يحدث مخالفة الأحكام الواردة في الأحاديث النبوية المتعلقة بالزكاة، كما ينبني
على هذه النظرة أن الشريعة الإسلامية تحاكي في تشريعها المالي النظام المالي
المعاصر، والذي يضع حدوداً للإعفاء لمقابلة احتياجات الممولين، ولكن الشريعة
بكمالها لم تغفل هذا الجانب من تأثير التغير في قيمة النصاب، حيث تم استيعاب
ذلك من خلال الضابط الرابع، وهو: الفضل عن الحوائج الأصلية.
الضابط الرابع: الفضل عن الحوائج الأصلية:
إن وجوب الزكاة في المال وفق ما يذهب إليه الأحناف لا يجب إلا إذا كان
النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالكه، وقد استُدل بأحاديث، منها: ما رواه
الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(إنما الصدقة عن ظهر غنى) [11]، وفي رواية: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى)،
وما ورد عن الصحابة في تفسيرهم لقوله (تعالى):] وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
العَفْوَ [[البقرة: 219]، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما): العفو: ما يفضل
عن أهلك، وقد ذكر ابن كثير أن هذا القول قال به ابن عمر، ومن التابعين:
مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير.
¥