تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم ومكاتباتهم بأفصح لسان وأبين بيان؛ فإنه ينتفع بذلك إذا احتاج إلى الإنشاء، أو جاوب صديقاً، أو كاتب حبيباً؛ لأنه ينبغي أن يكون كلامه على قدر علمه، وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطاً عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة، والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ، وما أقبح بالعالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علم من علومه، ويتضاحك منه من له أدنى إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام، ويستعين على بلوغ ما يليق به ويطابق رتبته بمثل علم العروض والقوافي، وأنفع ما في ذلك منظومة الجزاز وشروحها، وبمثل المؤلفات المدونة لذلك، وأنفع ما ينتفع به (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير.

ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سروراً، والنفس انشراحاً، كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب. ص206 - 207.

24 - وبالجملة فالعلم لكل فن خير من الجهل به بكثير، ولاسيما من رشح نفسه للطبقة العلية، والمنزلة الرفيعة. ص207

25 - وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به، ولا يعرفه، ولا يعرف موضوعه، ولا غايته، ولا فائدته، ولا يتصوره بوجه من الوجوه. ص208

26 - وأما من كان أهلاً للعلم وفي مكان من الشرف فإنه يزداد بالعلم شرفاً إلى شرفه، ويكتسب به من حسن السِّمت وجميل التواضع ورائق الوقار وبديع الأخلاق ما يزيد علمه علواً وعرفانه تعظيماً، فيتخلق بأخلاق الأنبياء ومن يمشي على طريقهم، من عاملي العلماء وصالحي الأمة، ويعرف للعلم حقه، ويعظمه بما ينبغي من تعظيمه، فلا يكدره بالمطامع، ولا يشوبه بالخضوع لأهل الدنيا، ولا يُجَهِّمه بالتوصل به إلى ما في يد الأغنياء فيكون عنده مخدوماً لا خادماً، ومقصوداً لا قاصداً. ص216

27 - وبين هاتين الطائفتين طائفة ثالثة، ليست من هؤلاء ولا من هؤلاء، جعلوا العلم مكسباً من مكاسب الدنيا، ومعيشة من معايش أهله لا غرض لهم فيه إلا إدراك منصب من مناصب أسلافهم، ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم، كما نشاهده في غالب البيوت المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو الكتابة، أو ما هو شبيه بهذه الأمور؛ فإن من كان طالباً للوصول إلى شيء من هذه الأمور، ذهب إلى مدارس العلم يتعلم ما يتأهل به لما يطلبه، وهو لا يتصور البلوغ إلى الثمرة المستفادة من العلم، والغاية الحاصلة لطالبه فيكون ذهنه كليلاً، وفهمه عليلاً، ونفسه خائرة، ونيته خاسرة، بل غاية تصوره ومعظم فكرته في اقتناص المنصب والوصول إليه، فيخدم في مدة طلبه واشتغاله أهل المناصب ومن يرجو منهم الإعانة على بلوغ مراده أكثر مما يخدم العلم، ويتردد إلى أبوابهم ويتعثر في مجالسهم، ويذوق به من الإهانة ما فيه أعظم مرارة ويتجرع من الغصص ما يصغر قدر الدنيا بالنسبة إليه.

فإذا نال ذلك المنصب ضرب بالدفاتر وجه الحائط، وألقاها خلف السور لعدم الباعث عليها من جهة نفسه والمُنشِّط على العلم والمرغب فيه. ص216 - 217

28 - ومن هذه الحيثية تنازل منصب العلم، وتهاون الناس به؛ لأنهم يرون رجلاً قد لبس لباس أهل العلم، وتزيَّا بزيهم، وحضر مجالسهم، ثم ذهب إلى مجالس أهل الدنيا ومن لهم قدرة على إيصال أهل الأعمال الدنيوية إليها من وزير أو أمير، فتصاغر لهم، وتذلَّل، وتهاون، وتحقر، حتى يصير في عداد خدمهم ومن هو في أبوابهم. ص218

29 - ولا أقول: إن أهل العلم العارفين به المطلعين على أسراره يمنعون أنفسهم من المناصب الدينية، وكيف أقول بهذا وهذه المناصب إذا لم تربط بهم ضاعت، وإذا لم يدخل فيها الأخيار تتابع فيها الأشرار، وإذا لم يقم بها أهل العلم قام بها أهل الجهل، وإذا أدبر عنها أهل الورع أقبل إليها أهل الجور؟! وكيف أقول هذا وأهل العلم هم المأمورون بالحكم بين الناس بالحق والعدل والقسط، وما أنزل الله وما أراهم الله، والقيام بين الناس بحججه، والتبليغ لأحكامه، وتذكيرهم بما أمر الله بالتذكير به وإرشادهم إلى ما أرشدهم الله إليه، ولأهل القضاء والإفتاء ونحوهما من هذه الأمور أوفر نصيب وأكبر حظ؟!.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير