ومَرَّ عامر بن عبد قيس في الرَّحبة، وإذا برجل يُظْلَم، فألقى رداءه، وقال: لا أرى ذمة الله تخفر وأنا حي؛ فاستنقذه، ويُرْوى أن سبب إبعاده إلى الشّام كونه أنكر وخلَّص هذا الذِّمي، ولما سُير عامر بن عبد الله؛ شيعه إخوانه، وكان بظهر المربد، فقال: إني داعٍ فأمنوا: اللهم من وشي بي، وكَذَبَ عَلَي وأخرجني من مصري، وفرق بيني وبين إخواني، فأكثر ماله، وأَصِحَّ جسمه، وأطل عمره.
قَالَ قتادة: لما احتضر عامر بكى، فقيل: ما يُبكيك، قَالَ: ما أَبْكِي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.
منصور بن المعتمر:
حليف الصيام والقيام، من أحسن النَّاس صلاة، و أسردهم صياما.
عن الثوري قَالَ: لو رأيت منصورًا يصلي لقلت يموت الساعة.
وكان منصور من العُبّاد صام ستين سنة وقامها، وكان جيرانه يحسبونه بالليل في الصيف خشبةً قائمة، فلما مات كانوا يقولون الخشبة ما فعلت!
قالت ابنة لجار منصور بن المعتمر لأبيها: يا أبت! أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟! قَالَ: يا بنية! ذاك منصور كان يقوم بالليل.
وكان منصور يصلي في سطحه فلمّا مات، قَالَ غلامٌ لأمه: يا أمه الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه، قالت: يا بني ليس ذاك جذعًا؛ ذاك منصور قد مات.
وصام منصور وقام، وكان يأكل الطَّعام؛ ويُرى الطَّعام في مجراه.
وعن زائدة أن منصور بن المعتمر: صام ستين سنة، يقوم ليلها، ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلا! فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي، فإذا كان الصُّبح كحل عينيه، ودهن رأسه، وفرق شفتيه، وخرج إلى النَّاس.
وعن سفيان وذكر منصورًا بن المعتمر، فقال: قد كان عمش من البكاء.
عن أبي بكر بن عياش قَالَ: ربما كنت مع منصور في منزله جالسًا فتصيح به أمه وكانت فظة غليظة، فتقول: يا منصور! يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبي عليه! وهو واضع لحيته على صدره؛ ما يرفع طرفه إليها، وكان يقول للأم ثلاثة أرباع البر.
وكانت أم منصور تقول له: يا بني إن لعينك عليك حقًا، ولجسمك عليك حقًا، فكان يقول لها منصور: دعي عنك منصورًا، فإن بين النفختين نومًا طويلا.
سفيان الثوري:
لقد ضرب سفيان المثل في العبادة، حتى ترأس على أهل زمانه - رحمه الله -. فلقد كان عابدًا متنسكًا، قائمًا بأمر الله، لا يعيقه عائق، ولا يخشى في الله لومة لائم.
قَالَ سُفْيَان بن عيينة: ما رأيت رجلًا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
وعن أبي عاصم النبيل قَالَ: سمعت سفيان يقول: كان الرَّجل إذا أراد أن يطلب العلم؛ تعبد قبل ذلك عشرين سنة.
قَالَ مؤمل بن إسماعيل: قَدِمَ سفيان مكة فكان يُصلِّي الغداة ويجلس يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ثم يطوف سبعة أسابع - أشواط - يُصلي بعد سبوع ركعتين يطولهما، ثم يصلي إلى نصف النَّهار، ثم ينصرف إلى البيت، فيأخذ المصحف فيقرأ، فربما نام كذلك، ثم يخرج لنداء الظهر، ثم يتطوع إلى العصر، فإذا صلى العصر أتاه أصحاب الحديث فاشتغل معهم إلى المغرب، فيصلي ثم ينتقل إلى العشاء؛ فإذا صلَّى فربما يقرأ ثم ينام.
وعن يوسف بن أسباط، قَالَ: قَالَ لي سُفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه، ووضع يساره على خدِّه، فبقي مفكرًا ونمت، ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى السّاعة.
وقال عبد الرزاق: دعا الثوري بطعامٍ ولحم، فأكله ثم دعا بتمر وزبد فأكله، ثم قام يصلي، وقال: أحسن إلى الزِّنجي وَكُدَّه.
وقال عبد الرَّزاق أيضًا: لما قدم سفيان علينا، طبخت له قدر سَكْبَاج فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قَالَ: يا عبد الرَّزاق أَعْلِف الحمار وَكُدَّه، ثم قام يصلي.
وكان قد تغدَّى، وأتى برطب فأكل، ثم قام إلى الصَّلاة فصلَّى ما بين الظهر والعصر، ثم قَالَ: يقال: إذا زِدت في قَضِيم الحمار، فزِد في عَمَلِه.
وعن أبي خالد الأحمر قَالَ: أكل سفيان ليلةً فشبع فقال: إن الحمار إذا زيد في عَلَفِه زيد في عمله، فقام حتى أصبح.
عبد الله بن المبارك:
الإمام السَّخي الجواد، أليف القرآن والحج والجهاد.
¥