فكما أنّ من تواضع لله رفعه، فكذلك من تكبّر عن الإنقياد للحقّ أذله الله ووضعه من تكبّر عن الإنقياد للحق ولو جاءه على يد صغير، أو من يبغضه، أو يعاديه فإنّما تكبّر على الله، فإنّ الله هو الحقّ، وكلامه حق، ودينه حق، والحقّ صفته، فإذا ردّ العبد الحقّ وتكبّر عن قبوله، فإنّما ردّ على الله، تكبّر عليه، ولهذا جعل شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله تعالى التكبّر شر من الشرك، لأنّ المتكبّر، تكبّر وأعرض عن عبادة الله، والمشرك يعبد الله ويعبد غيره، بل جعل الإمام إبن القيم قوله تعالى:" إن الله لا يغفر أن يشرك به " تشمل المتكبّر من باب أولى.
وإنّ ما أخشاه على الّذين يردّون الحقّ و الإنقياد له بدعاوي باطلة التي ذكرنا بعضها، ثمّ يرمون أهل الحق بالباطل أن يشملهم قوله تعالى:" ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له إتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد " البقرة [204_206]
وإنّ من موانع الإنقياد للحق الّذي يجمعها الكبر:
. مانع الحسد وهو مانع إبليس من الإنقياد للأمر، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الّذين عرفوا صحة نبوّة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
. مانع الرياسة والملك وإن لم يقم بصاحبه حسد، إذ لا يمكن في تصوّره وزعمه أن يجتمع له الإنقياد للحق وملكه ورياسته، كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الّذين علموا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، وأقروا بها باطنا، وأحبوا الدخول في دينه، لكن خافوا على ملكهم، وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة، وقلّ من نجا منه إلاّ من عصم الله.
. مانع الشهوة و المال وهو الذي منع كثيرا من أهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم.
. محبة الأهل والأقارب والعشيرة: يرى أنّه إذا إتبع الحق وخالفهم أبعدوه، وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم.
. تخيل أن في الإسلام ومتابعه الرسول عليه الصلاة والسلام إزراءا وطعنا منه على آبائه وأجداده، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله من الإنقياد للإسلام.
. متابعة من يعاديه من النّاس للرسول صلى الله عليه وسلم، وسبقه إلى الدخول في دينه وقربه منه، وهذا القدر منع كثيرا من إتباع الهدي بكون للرجل عدو، يبغض مكانه، ولا يحب أرضا يمشي عليها، فيقصد مخالفته ومناقضته، فيراه قد إتبع الحق، فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله.
. مانع الإلف والعادة و المنشأ، فإنّ العادة قد تقوى حتّى تغلب حكم الطبيعة، ولهذا قيل هي طبيعة ثانية، فيتربّى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا، فيتربّى قلبه ونفسه عليها، كما يتربّى لحمه و عظمه على الغذاء المعتاد، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة، فيعسر عليه الإنتقال، وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنى، فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنقل.
...
التواضع
إنّ من أعظم ما ينبغي على المؤمن أن يتحلّى به من أوصاف هو التواضع، وقد مدح الله تعالى أهل التواضع في القرآن بقوله:" يا أيّها الّذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "
بل إنّ الله تعالى أمر به المؤمنين وحثهم عليه، جاء في صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي - أي لا يعتدي - أحد على أحد "
(نهى سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن نوعي الإستطالة على الخلق وهي الفخر والبغي لأنّ المستطيل إن إستطال بحق فقد إفتخر، وإن كان بغير حق فقد بغى، فلا يحل لا هذا و لا) هذا فالتواضع وصف يساعد المسلم على إجتناب كل ما هو مذموم من الأوصاف القبيحة.
ولمّا كان التواضع عنوان حسن الخلق، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم كما وسمه ربّ العالمين في القرآن الكريم، فكان صلى الله عليه وسلم يمرّ على الصبيان فيسلّم عليهم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه الثلاث
¥