وكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير ويأكل مع الخادم، ويجالس المسكين، ويمشي مع الأرملة و اليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسّلام، ويجيب دعوة من دعاه إلى أيسر شيء، ويقبل مشورة أصحابه.
ولقد سار سلفنا الصّالح على نهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لمّا أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه لمّا وليّ إمارة، كان يحمل الحطب على ظهره، ويقول: طرِّقوا للأمير.
ومن أجل ذلك زكّاهم الله تعالى ورفع ذكرهم، قال تعالى:" محمّد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركّعا سجّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود " الفتح [29].
صور التواضع
وللتواضع صورا عديدة تظهر في مشي الإنسان ولباسه، وطيب كلامه، وطلاقة وجهه عند لقاء إخوانه المؤمنين.
- فمن التواضع: قبول من المعتذر معاذيره، فإنّ من أساء إليك ثمّ جاء يعتذر من إساءته فإنّ التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقّا كانت أو باطلا، وتكل سريرته إلى الله تعالى، وعلامة الكرم والتواضع أنّك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه ولا تحاجه، وهذا واضح في قصّة يوسف عليه الصلاة والسلام مع إخوته.
. ومن التواضع قبول الحق: فكما رأينا أنّ من أعظم أنواع الكبر هو جحود الحقّ وعدم الإنقياد له، فإنّ من أعظم أنواع التواضع هو قبول الحقّ و الإنقياد له.
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: يخضع للحقّ، وينقاد له، ويقبله ممن قاله. إنتهى
. وإنّ من التواضع أن لا يتّهم دليلا من أدلّة الدّين بحيث يظنه فاسد الدلالة، أو ناقص الدّلالة أو قاصرها، أو أنّ غيرها كان أولى منه من أجل نصرة رأيه، ومتى عرض له شيء من ذلك فليتّهم فهمه، وليعلم أنّ الآفة منه، و البليّة فيه، فإنّه ما إتّهم أحد دليلا من أجل نصرة رأيه إلاّ وكان المتّهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله، فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل.
وأمّا بالنسبة للغير، فاتّهم آراء الرجال على نصوص الوحي وليكن ردّها أيسر شيء عليك للنصوص؛ فوا عجبا إذا إتّسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليدا، أو تأويلا أو لغير ذلك، فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم، وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النصوص.
قال الإمام إبن القيّم: إنّكم معاشر المقلدّين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولا يخالف قول المتبوع، أو خرّجه على قوله جعلتموه وجها، وقضيتم وأفتيتم به، وألزمتم بمقتضاه، فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولا يخالفه لم تلتفتوا إليه، ولم تعدّوه شيئا، ومعلوم أنّ واحدا من الأئمة الّذين هم نظير متبوعكم أَجَلُّ من جميع أصحابه من أوّلهم إلى آخرهم، فقدّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم، فيا لله العجب! صار من أفتى بقول واحد من مشايخ المذهب أحقّ بالقبول ممّن أفتى بقول الخلفاء الرّاشدين وإبن مسعود، و إبن عبّاس، و أبيّ بن كعب، و أبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وهذا من بركة التقليد عليكم. إنتهى
. ومن التواضع أنّه لا يجوز إحداث تأويل في آية، أو سنّة لم يكن على عهد السلف الصالح، ولا عرفوه، ولا بيّنوه للأمّة، فإنّ هذا يتضمن أنّهم جهلوا الحقّ في هذا، وضلّوا عنه و إهتدى إليه المعترض المتأخر، من باب أولى لا نحدث تأويل يخالف ويعارض ويناقض تأويلهم، فإنّ سلفنا الصالح والصحابة خصوصا مذهبهم أسلم وأعلم وأحكم، فهم أفقه الأمّة، وأبّر الأمّة قلوبا وأعمقهم علما، وأقلّهم تكلّفا، وأصحهم قصودا، وأكملهم فطرة، وأتمّهم إدراكا، وأصفاهم أذهانا الّذين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول عليه الصلاة والسلام، فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته، والفرق بينهم ومن بعدهم في ذلك، كالفرق بينهم وبينهم في الفضل، فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم.
فكيف بمن يصرّح بأنّ علم السلف أسلم وعلم الخلف أعلم وأحكم.
¥