[ليس المطر خير وبركة بل عذاب وعقاب ...]
ـ[فؤاد البابلي]ــــــــ[13 - 01 - 2006, 02:08 م]ـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وبعد:
لقد وقفت كثيراً حين تأملت عنوان لدرس في اللغة العربية " المطر خير وبركة " للصف الثاني الأساسي، فالقارئ للقرآن الكريم المتأمل لمعانيه يعلم أن لفظة المطر لم ترد إلا ومعها صفات العذاب والعقاب لا الخير ولا البركة وأصحاب اللغة يعلمون علم اليقين أن دراسة اللفظ تقتضي تحديد الدلالة بدقة متناهية، ودراسة السياق الذي يرد فيه اللفظ دراسة دقيقة، واستقراء جميع المواضع التي ورد فيها اللفظ، والدراسة السياقية أساس مهم لتحديد الدلالة بدقة ...
القرآن الكريم حيث يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، كتاب المعجزات الخالدات، لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء ولا يملُّه الأتقياء، ولغته أول مظاهر إعجازه، واللغة لفظ ودلالة، أو مبنى ومعنى … ولا شك أنّ المتدبر الحافظ هو أقدر من غيره على النظر بشمول إلى القرآن الكريم فحين نتدبر ألفاظه المترادفه نجد لكل لفظة كيان وشخصية ودلالة ومعان: فالقلب غير الفؤاد والعام غير السنة والحَلف غير القسم والجسم غير الجسد والمطر غير الغيث والماء وهذا قليل من كثير.
الغيث والمطر: في اللسان"المطر: الماء المنسكب من السحاب، والمطر: ماء السحاب والجمع أمطار …وأمطرهم الله مطراً أو عذاباً، وأمطرهم الله في العذاب خاصة وفي القاموس المحيط " الغيث: المطر والكلأ ينبت بماء السماء وفي المفردات"المطر: الماء المنسكب …وفيه الغيث: المطر " وحين نستعرض المادتين في القرآن نجد أن الماء النازل من السماء يسمى باسمه"ماء"أحياناً ويسمى باسم الغيث أحياناً أخرى، ومادتا (غوث وغيث) تأتيان في القرآن بمعان متقاربة، فالغوث: العون والمساعدة، والغيث الماء الذي يُغاث به الناس، ومن ذلك:
أ- إن الله عنده علم الساعة وينزلُ الغيثَ ويعلم ما في الأرحام (لقمان: 34)
ب- وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا (الشورى: 28)
ج- كمثل غيث أعجب الكفار نباته (الحديد:20)
د - هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ النحل: (10
ه - وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (ق: (9
و - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (الحج: 63)
فلفظ الغيث هنا يحمل معاني في الخير والعون، ولذلك يأتي في مواضع إظهار النعمة والمنّ بها على العباد … أما المطر فقد ورد - أسماء وأفعالاً - في خمسة عشر موضعاً في القرآن الكريم، منها أربعة عشر موضعاً في العذاب والعقاب صراحة، ومن ذلك:
أ- وأمطرنا عليهم مطراً (الشعراء: 173)
ب- ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء (الفرقان: 40)
ج-وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (الأعراف:84)
د- ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم (النساء:102) ...
ولا يخفى من السياق أن الموضع موضع " أذى من مطر" لا موضع غيث، فالماء إذا زاد عن حده صار هلاكاً كالفيضان والسيل، واقتران المطر بالمرض في هذا السياق يزيد الصورة وضوحاً فهو موضع شدة ومشقة، وهذه الظلال تختفي لا ريب إذا كان اللفظ هو الغيث الذي يحمل معاني الفرج والعون والحياة.
تستخدم كلمة المطر في القرآن للسوء فقط، أما الغيث الذي يأتي من السماء فاسماؤه مختلفة، يقول الزمخشري في الكشاف:أمطرت أرسلت شيئاً على نحو المطر وإن لم يكن ماء ... واتفق أن السماء لم ترسل شيئاً سوى المطر إلا وكان عذاباً ... ج2 ص122.
وحين تحدث رسولنا الكريم عن الماء وما يحدثه في الأرض طيبة كانت أو جدباء شبه ما بعثه الله به من الخير بالغيث: فعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِه ِ". (متفق عليه)
وأخيراً فإن هذا قليل من كثير فالمطر غير الغيث والفؤاد غير القلب، والحلف يأتي في مواضع الاعتذار والندم، والقسم يأتي في مواضع التعظيم والعزة والقوة، ولا يفسر أحدهما بالآخر، والسنة تظهر فيها ملامح الشدة بما لا يظهر مع العام، والزواج غير النكاح، ويأتي العقل في مواضع لا يأتي فيها اللب والحِجر والنُّهى، وانفجر غير انبجس، والجسم يستعمل في القرآن لما فيه روح فقط، والجسد لما ليس فيه روح، وجلس للمكوث القليل وقعد للكثير… إلخ، وهذه بعض ملامح إعجاز اللفظ في لغة القرآن الكريم، نسأل الله تعالى أن يتنبه كاتبو ومؤلفو المناهج الفلسطينية إلى ما أسلفنا فلا نقول المطر خير وبركة بل نقول الماء أو الغيث خير وبركة والله الموفق.
¥