لكن سياسات الغرب الاستعمارية ما كانت تخطِّط لمثل هذا الانتعاش في مسيرة اللغة العربية، فما أن ثبَّت الاجتياح البريطاني أقدامه في مصر حتى عرقل هذه المسيرة أولاً بتحويل التدريس في مدرسة الطب إلى اللغة الإنجليزية عام 1887م بعد سبعة عقود من الإنجازات، ليس أقلها مصطلحيًّا قاموس الشذور الذهبية الذي ترجم قاموس القواميس الطبية الفرنسي لفابر الشامل في مجلداته الثمانية كامل مصطلحات العلوم الطبية المعروفة حينئذ. وأغلقوا مدرسة الألسن، ونُفِي رفاعة الطهطاوي ومؤيدوه إلى السودان.
ولكن مع تحرر البلاد العربية من الاستعمار، لم نَرَ سوى كلية الطب في جامعة دمشق تدرس الطب باللغة العربية، ونرى جمهرة من الأساتذة العرب يقاومون تعريب العلوم تحت دعوى أن اللغة العربية غير قابلة لتعليم هذه العلوم، وأنه لكي نصل للمستوى العلمي اللائق يجب تدريس العلوم بلغات أجنبية، إلى جانب عدم توفر المراجع العربية لهذه العلوم.
أحمد شفيق الخطيب، عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو لبناني، يرى أن معظم العارفين ممن عايشوا محاولات التعريب أجمعوا على أن السبب الأهم وراء فشل أو عرقلة إمكانية نجاح حركات تعريب العلوم كان لا يزال موقف هيئات التدريس في الجامعات العربية، ويعزي ذلك إلى أن معظم جامعاتنا ومعاهدنا تعتمد في إعداد هيئاتها التعليمية على خريجي الجامعات الأجنبية، ممن تبعثهم الدولة أو الجامعات، أو الذين استطاعوا أو يستطيعون ذلك بوسائله الخاصة، وهؤلاء بحكم القانون الطبيعي في اختيار المسار الأسهل لا يرحِّبون بالتعريب إن لم يعارضوه علنًا؛ لأن التدريس بالعربية سيتطلب منهم جهدًا مضاعفًا يتهيَّبونه، فالتدريس بالعربية يقتضيهم جهدًا إضافيًّا في الإعداد والتفتيش عن المصطلحات أو وضعها، وهم بهذا الجهد ضنينون.
ويشير الدكتور "محمود السمرة" نائب رئيس مجمع اللغة العربية الأردني إلى مثل هؤلاء بقوله: ولو أنهم - اقتداء بالأشاوش رجال المعهد الطبي في دمشق - آمنوا أن التدريس بالعربية يعني محافظة الأمة على شخصيتها وتراثها، وأن أفراد الأمة لا يمكن أن يبدعوا إلا من خلال لغتهم، وأن الطالب لا يمكن أن يستوعب المادة استيعابًا دقيقًا، لهان عندهم أي جهد يمكن أن يقدموه من أجل التعريب.
إن احتجاج الرافضين لتعريب العلوم بعدم توافر الكتب العربية في هذا المجال وكذلك الدوريات مردود عليه من خلال الجهود التي بذلت خلال السنوات الماضية في هذا المجال، ومنها تعريب مجلة العلوم الأمريكية الشهيرة والذي تقوم به مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
وبذل مجمع اللغة العربية في القاهرة ونظيره في دمشق جهودًا مضنية خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتعريب المصطلحات العلمية من خلال لجان علمية جمعت علميين ولغويين، وأصدر مجمع اللغة العربية مجموعة من المعاجم العلمية العربية، لعل أبرزها معجم البيولوجيا في علوم الأحياء والزراعة الذي استغرق إعداده السنوات من 1976م إلى 1984م، وشارك فيه نخبة من كبار العلماء العرب، لعلَّ أبرزهم "دكتور حامد جوهر"، ودكتور "عبد الحليم منتصر"، ودكتور "محمد رشاد الطوبي".كما أصدر المجمع أيضًا على سبيل المثال معجم الفيزيقا الحديثة، في جزأين عام 1986م، وكان المجمع قد أصدر عام 1976م معجم الفيزيقيا النووية. ويعود الفضل لإخراجه للدكتور "مصطفى نظيف".
وفي مجال الكتب العلمية المتخصصة أصدرت دار الفكر العربي في القاهرة أول سلسلة كتب علمية متخصصة في العلوم الأساسية تحت إشراف الدكتور "أحمد فؤاد باشا" عميد كلية العلوم في جامعة القاهرة، وتهدف هذه السلسلة إلى:
- ربط المادة العلمية بما يدرسه الطلاب في مناهجهم الدراسية، وعرضها على نحو يوافق التصور الإسلامي للمعرفة، ويحقق أهداف وغايات التربية الإسلامية.
- إثراء الثقافة العلمية لدى الطلاب، والارتقاء بذوقهم، مع تنمية الجانب التجريبي والتطبيقي؛ ليتعودوا حسن الاستفادة من كل ملكات الفكر والعمل.
- إبراز الدور الرائد الذي قام به علماء الحضارة العربية الإسلامية قديمًا وحديثًا في دفع مسيرة التقدم العلمي.
- تتبع نمو المفاهيم العلمية وصولاً إلى أحدث الكشوف والمخترعات، وذلك بهدف غرس منهجية التفكير العلمي لدى الطلاب، وتوسيع مداركهم إلى أبعد من حدود الموضوعات الدراسية المقررة عليهم.
- الالتزام بما أقرَّته مجامع اللغة العربية من مصطلحات علمية، ويفضَّل أكثرها شيوعًا مع ذكر المقابل الأجنبي.
وقد صدر في هذه السلسلة عدد من الكتب الرائدة، منها:
- البصريات تأليف دكتور "أحمد فؤاد باشا" ودكتور "شريف خيري".
- أسس الكيمياء العلمية تأليف دكتور "أحمد مدحت إسلام".
- فيزياء الجوامد تأليف د. "محمد أمين سليمان" وآخرين.
- علم الفلك العام لتأليف دكتورة "ميرفت السيد" ودكتور "مصطفى كمال".
- أسس علم الميكانيكا تأليف دكتور "عبد الشافي عبادة" وآخرين.
- العلوم الجوية وتطبيقاتها تأليف دكتور "محمد الشهاوي".
- علم البيئة العام والتنوع البيولوجي تأليف دكتور "علي المرسي" والدكتور "محمد الشاذلي".
نقلاً عن إسلام أون لاين بتصرف ...