وإني لعن ذينيك ناءٍ ويائسٌ
فليس لما أشكوه خطبٌ مساويا
في الحديث الملتاع نعجز عن التعبير
تستعصي آلامنا عن الشرح والتقريب
ليتها شكوى حب، أو أنين هجر
وحده الموت بعيد ترتيب الأوجاع حسب حرارة الالتياع ..
وهي فقط " مفارقة الأحباب " التي تشوب تجارب الحياة بمرارة خاصة ..
شرح الشاعر هذا في امتداد أبياته الأربعة التي يمكن اعتبارها المقدمة، من الممكن اختصارها، ومن الممكن تقليلها و تركيزها لكن
أنَى لشكوى المكلوم أن تُختصر؟!! وهيهات لدموع المصاب أن تقل وتركَز!!
قد تعاد صياغتها حين تصفو الرؤية في الآماق ..
فمن ذا يلوم العينَ إن جف دمعها؟
على مثلِ من تبكي وتشكو التنائيا
لا يلومه مجرب .. وتعبير " جف الدمع " حقيقي لا مجازي في مثل هذا المصاب
سيجف الدمع .. هذا صحيح،
وستعود الابتسامات .. هذا أكيد،
وستستمر الحياة .. هذا الواقع،
وسيحدث الشاعر الجلاس ويأتي ذكر الراحل عرضا .. فلا تنسكب الدمعة، ولا يعلو النشيج، لم تجف تماما بل غارت، صارت بئرا مخزونا هائلا عميقا في باطن الروح .. بئر عذب سائغ شرابه ... لا تصل إليه إلا الدعوات الصادقة ولا يستنزف إلا في مواضع السجود ..
ويتصاعد الأنين في هذا البوح الحزين حين يحدثنا عن صفات "فواز رحمه الله " بصفات الأحباب الكرام دوما
من حالت الحياة بينه وبين إتمام زفافه إلى المعالي " أتفق مع الدكتور في عدم مناسبة معنى " أجارته المنايا عن الدنى "
...
من لم يتسع عمره القصير لطموحاته البعيدة ..
من طلق الدنيا وسعى للآخرة، وكذاك يفعل الفائزون المفلحون كتبه الله والمسلمين والمسلمات منهم ..
هل كان الراحل صغيرا .. شابا؟ يملك الكثير وينتظر الأكثر ..
هي حكمة الله وتقدير العزيز العليم وكتب ٌ وآجال ..
وفدتَ على ربٍ رؤوفٍ بخلقه
ويمحو بدقِ الخير جلَ المساويا
أُخْيَ الذي لو يُفْتَدَى لفديتُه
وأمسيتُ عنه حيث ما كان ثاويا
كأني به قد لامني إذ تركتُه
يظنُ بأني بعده عنه ساليا
لَعَمْرُكَ لو تدري الذي قد أصابني
لكنتَ تُعزى أنت عني لما بيا
ما أصعب توجيه الخطاب للراحل!
وما أعذب الأمل في تصور النعيم الذي انتقل إليه – بحسن الظن برحمة رب العالمين –
هو العزاء والله .. الأمل بكرم الجواد الرحيم سبحانه ..
وفدتَ .. اتجاه بالمشاعر كلها إلى الفقيد، بعدها الشاعرانصرف بالخطاب وحدثنا عن لوعته وقت الفاجعة،
ثم عاد إليه واعتذر وقال: لعمرك لو تدري الذي قد أصابني "
ولا يلبث أن يولي بصره تجاهنا " يظن البلى أني سأنساه إذ ثوى .. وأني لن أعدم عليه تعازيا "
لا بد من تنسيق الضمائر ليتناسق المعنى
تحتاج الصياغة ترتيبا ..
وتفتقد القطعة حرفة و تنميقا ..
أ يحق لنا الاعتراض؟!
لا بالتأكيد؛ إن الصائغ قدمها سبائك من خلايا الفؤاد، وكلمات بمداد الدمع، أحداقه نازفة، و أنامله مجرحة فلا تثريب عليه .. ولعله حين تطيب أحواله يتناول مصوغاته وينحتها بدقة ..
أُخْيَ الذي لو يُفْتَدَى لفديتُه
وأمسيتُ عنه حيث ما كان ثاويا
جد دافئة كلمة " أخي "!
لسبب لا أعرفه لا أميل لتعبير "ليتني الراحل وبقيت أنت "
ما قيمة التمني والفراق في الحالين واقع لا محالة؟ أشعر بنوح غير محبب في هذه الأمنية المستحيلة ..
بقدر رفض هذا التعبير أتأمل دوما حديث الثكلى: بم سيفدون أحبابهم لو طلب الموت فدية؟ ..
سيفديه الشاعر بروحه ولا شك ..
وبعدك حلَّ الخُلْفُ فينا مسوَّداً
فلم تشرق الدنيا علينا كما هيا
معنى هذا البيت يحتاج مبنى أقوى
مفردة الخلف " أوحت بحال لا يسر .. وهذا لا يناسب الحديث للراحل مهما كان؛ لذا نجد العديد من الشعراء يعاهدون الموتى على الوفاء لهم وإكمال مسيرتهم والسعي لتنفيذ رؤاهم لإسعادهم ولو بعدت المسافات وانعدمت الأصداء .. فليحل أي طارئ آخر إلا التشتت والانقسام ..
ومسودا من السيادة لا تتوافق مع الفكرة ومع الشطر الثاني ..
يظن البِلى أني سأنساه إذ ثوى
وأنَّيَ لن أعدم عليه تعازيا
فهيهات هل تنسى? السنون جديدَها؟
وأنَّى? يُرى? الليلُ البهيمُ أحاديا؟
فما غاب عنِّي حين أغفو خيالُه
ولا منه يخلو حين أصحو خياليا
الشطر الأول من البيت الأخير هو تماما معنى ومبنى الشطر الثاني باستثناء النوم واليقظة،والشاعر قادر على إعادة صياغته ليكون مسك ختام النص ..
وقد ورد قديما ولكن البناء أضفى عليه جمالا وفكرة مثل قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرا .. وأذكره لكل غروب شمس
وقال شاعر معاصر:
وإذا صحوت فأنت أول خاطر .. وإذا غفوت فأنت أنت الآخر
يظن البلى أني سأنساه؟ تعجب ٌ في نبرة استفهام، وتعتب ٌ في نظرة حيرة
لن ينساه إن شاء الله ..
ولكن سيسلو؛؛ لأنه ناموس الحياة وسعة رحمة الخالق عز وجل بأفئدة المكلومين ..
ستتحول الأوجاع كلها من طاقة الحزن الظاهرة إلى شكل آخر يعمل بالداخل ..
ستختفي الدموع من الوجنات، وتحفر تحت المسام أخاديد رفيعة ..
سيخفت الأنين في الكلمات، ويعتصر بشدة نياط القلب ..
ستبهت اللوعة في العينين، وتبرق شيبا في الأصداغ ..
سيمر العام تلو العام .. لكن الذكرى ستترك آثارها على الملامح كأنها العقد تلو العقد ..
ولا بأس ..
مادام اليقين بالقضاء دواء، والاستسلام والرضا بلسما، والسلوى: أن كل مصاب بعد الحبيب صلى الله عليه وسلم هين، وأنه فراق على قنطرة العبور .. قليلا .. على أمل اللقاء في المحطة الخالدة السعيدة بإذن الله ..
وهذه هي الحياة!!
عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وكنت امرأ أبكي دما وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب!
اللهم اغفر لنا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ..
¥