ومع ذلك فإنه يجيد الوصف ويتقنه أكثر مما يجيد القصص، فإن القصة في الشعر الجاهلي ضعيفة الفن لاقتصارها على الخبر البسيط والسرد السريع كما يفعل عنترة في كلامه على مبارزاته، وتأبط شرا في حكاياته عن الغيلان.
ولا جرم أن الايجاز الذي اعتاد عليه الجاهلي يحول بينه وبين الاسهاب في أخباره، فلم يتوفر له عمل الملاحم والقصص الطويلة.
ـ[عاشق اللغة العربية]ــــــــ[26 - 08 - 2006, 05:26 م]ـ
ثالثا: المدح:
المدح في الجاهلية من الأبواب الرئيسة لاتصاله بالحياة القبلية، فقد كان على الشاعر أن يدافع عن أعراض قومه، ويمدح ساداتهم ويمجد أعمالهم، لذلك كان القبيلة تتباشر إذا نبغ شاعر فيها، لأن حماية الأعراض والأنساب لا تقل شأنا عن حماية الأموال والأرواح، ولا تلحق الشاعر غضاضة من هذا المدح لأن مفاخر القبيلة تعود إليه كما تعود إلى غيره من أبنائها، فما كان عمرو بن كلثوم في معلقته إلا مفاخرا بقومه، مدافعا عنهم، وكذلك الحرث بن حلزة في رده عليه والذود عن بني بكر.
على أن الشاعر الجاهلي مضطر كغيره من البدو إلى الترحل والنزول على قبيلة غريبة، ضيفا أو جارا فتحسن وفادته، وتبالغ في قراه وايناسه، أو تجيره وتساعده على حاجته، فيرى أن من واجبه أن يشكر لها صنيعها، ويمدح السيد الذي أضافه، ولا يعد ذلك من التكسب وإنما هو شكر على معروف، كما مدح امرؤ القيس القبائل التي تضيفه أو تجيره بعد مقتل أبيه فقال في المعلى التيمي حين أجاره من المنذر بن ماء السماء:
أقر حشا امرئ القيس بن حجر **** بنو تيم مصابيح الظلام
ولم يعرف التكسب في المدح إلا عندما أخذ الشعراء ينزحون عن قبائلهم، ويترددون في الأحياء الغربية، ويقرعون أبواب الملوك، مادحين مستجدين.
ولا نستطيع أن نرد بدء التكسب على شاعر قبل غيره لبعد العهد وضعف المستندات التاريخية، وكثرة الشعراء الذين تكسبوا، غير أن البعض زعموا أن النابغة أول من سأل بشعره، وزعم آخرين أنه الأعشى، ويعترض ابن رشيق على الذين يردون بدء التكسب إلى أبي بصير فيقول: ((وقد علمنا أن النابغة أسن منه وأقدم شعرا)).
ونعلم من الرواة أن الشعراء قبل النابغة كانوا يقصدون الملوك ويمدحونهم، فقد ذكروا أن المسيب بن علس دخل على عمرو بن هند ومدحه، ولقي هناك طرفة والمتلمس، وكان يتردد على القعقاع بن شور الدارمي ويمدحه وينال صلاته.
كما أن زهير بن أبي سلمى لم يؤخذ عليه مدحه لهرم بن سنان وقبوله العطاء منه، وما ذاك إلا لأنهم لم يتخذوا الشعر حرفة للتكسب كما اتخذه النابغة والأعشى والحطيئة.
وأما النابغة فكان يتنقل من المناذرة إلى اعدائهم الغساسنة، يمدح هؤلاء وأولئك ويستجديهم، ثم يبذل مافي وسعه لاسترضاء النعمان أبي قابوس، متذللا خاشعا ليعود إلى قصره بعد انقطاع رجائه من ملوك الشام، فعيروه وقالوا: غض الشعر منه، لأنه من أشراف القبيلة.
وأما الأعشى فقد كان أكثر ترددا منه في البلاد، يأخذ الصلة من الملوك والسوقة، وينفر سيدا على آخر فيهجو من لم يسئ إليه ليمدح منافسه على السيادة، فعله بعلقمة بن علاثة تأييدا لعامر بن الطفيل، ومن قوله في تطوافه:
وقد طفت للمال آفاقه **** عمان فحمص فأورى شلم
أتيت النجاشي في أرضه **** وأرض النبيط وأرض العجم
وبلغ التكسب أدنى دركاته عند الحطيئة، فقد أكثر من السؤال بالشعر، حتى مقت الشعر وذله أهله كما يقول ابن رشيق.
رابعا: الرثاء:
يشغل الرثاء جانبا عظيما من الشعر القبلي، لأنه في أكثره، مصروف في سادات العشيرة وفرسانها الذين لهم الآثر المحمودة، فليس موتهم موت واحد، بل بنيان قوم تهدم، كما قال عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم.
وكلما دنت القرابة بين الشاعر والميت ازداد الرثاء حسرة وتفجعا، وأروعه ما ندب به الأبطال في حومات القتال، فإن الشعراء في البكاء عليهم وفي تعداد مناقبهم، يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم، ويهيجون القبيلة للحرب والأخذ بالثأر، كرثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لأخويها صخر ومعاوية.
وفيه تتدفق العاطفة لوعة وألما، ويشتد الغلو في ذكر أوصاف الميت وتعظيمه، وقد يبلغ بهم استعظام الخطب إلى أن يتمنوا حدوث انقلاب في الكون كما قال المهلهل:
¥