ليت السماء على من تحتها هبطت **** وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
وبالرغم ما في رثائهم من مغالاة في ذكر فضائل الميت، إلا أنك لا ترى في أقوالهم ما يستهجن، وكل ما تنطق به النفس على سجيتها لا يظهر عليه التكلف البغيض.
وهم يصفون الميت بجميع الفضائل التي يفاخرون ويمدحون بها، غير أنهم يجعلون في كلامهم دلالات على أن المقصود به رثاء لا مدح، بما يتخلله من عبارات فيها ذكر المصاب والدفن والقبر، قال مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني **** وأين مكان البعد إلا مكانيا
وقال النابغة في رثاء النعمان الغساني:
فلا تبعدن إن المنية منهل **** وكل امرئ يوما به الحال زائل
وكثيرا ما ينعون تلك الفضائل مع الميت، فكأنما ذهبت بذهابه، قالت الخنساء:
يا صخر ماذا يوارى القبر من كرم **** ومن خلائق عفات مطاهير
وربما سلكوا سبيلا آخر، وهو أن يأتي الشاعر بكأن، فيقول كأن فلانا لم يركب جوادا، ولم يوقد نارا، قال كعب بن سعد:
كأن ابا المغوار لم يوف مرقبا **** إذا ربأ القوم الغزاة رقيب
ولم يدع فتيانا كراما لميسر **** إذا اشتد من ريح الشتاء هبوب
وقد يستسلم للقضاء والقدر إذا لم يجد سبيلا لإدراك الثأر، فيعمد إلى تعزية نفسه بذكر مصائب الدهر، وفلسفة الحياة والموت، كما فعل لبيد في رثاء أخيه أربد:
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا **** فكل امرئ يوما له الدهر فاجع
وما المال والأهلون إلا ودائع **** ولابد يوما أن ترد الودائع
قال ابن رشيق في العمدة: ((ومن عادة القدماء أن يضربوا الأمثال في المراثي، بالملوك الأعزة، وذلك في أشعارهم كثير موجود لا يكاد يخلو منه شعر)).
وإنما اتخذوا هذا الأسلوب ليستخلصوا حكمة ساذجة، وهي أن هؤلاء الملوك والأبطال لم يعف الموت عنهم، ول نجا حي من الموت لكان أولئك الناس أولى بغيرهم في النجاة، فيجدون عزاء لأنفسهم بضرب هذه الأمثال.
وهذه التأسيات تجعلهم أحيانا لا يندفعون مع العاطفة الجازعة المتفجعة، بل يستسلمون إلى القدر الذي يؤمنون بسلطانه، قال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها **** ألفيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغبتها **** وإذا ترد إلى قليل تقنع
خامسا: الغزل:
يقوم أكثر الغزل الجاهلي على الوصف والتشبيب، وأقله ما جاء قصصيا يحمل ذكريات المغامرات الغرامية يتخللها الحوار كما نجده عند امرئ القيس، وعند المنخل اليشكري في قوله:
ولقد دخلت على فتاة **** الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل **** بالدمقس وبالحرير
فدنت وقالت: يا منخل **** ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير حبك **** فاهدئي عني وسيري
وفيه من العفة ما يحمد عليه صاحبه، وإن كان لا يخلو بعضه من فحش ورذيلة ولاسيما شعر المترفين، وتسيطر عليه المادة من جميع نواحيه.
وليس الغزل عندهم فنا مستقلا، وإنما هو غرض من الأغراض المتعددة التي تشتمل عليها قصيدتهم، ولكن له حق الصدارة يستهل به ثم ينتهى منه إلى غيره.
ويبدأون غزلهم بذكر الطلول، ثم يذكرون الفراق وانتقال الظعائن، فتشجى نفوسهم، ويستعيدون صورة الحبيب النائي آخذين بوصفه وتمثيله، ذاكرين اسمه الحقيقي، أو كانين غنه بغيره حرمة واستحياء.
والجاهلي شديد الشغف بذكر محاسن المرأة يصف أعضاءها وملامحها ومزاياها، ويحيطها بأحسن ما عنده من التشابيه، قال المرقش الأصغر:
وما قهوة صباء كالمسك ريحها **** تعل على الناجود طورا وتقدح
ثوت في سواء الدن عشرين حجة **** يطان عليها قرمد وتروح
وخير النساء الحرة المنعمة، الكسول التي تنام الضحى، ولا تقوم للعمل في المنزل، القصيرة الخطى، البطيئة إذا مشت، قال قيس بن الخطيم:
تنام عن كبر شأنها فإذا **** قامت رويدا تكاد تنغرف
ومن صفاتها أن تكون حلوة الحديث، وفية لزوجها كاتمة لسره، قال قيس بن الخطيم:
خود يغث الحديث ما صمتت **** وهو بفيها ذو لذة طرف
تخزنه وهو مشتهى حسن **** وهو إذا ما تكلمت أنف
ولكن غزلهم في كثرته يدل على سوء ظنهم بالمرأة، وشدة ما يعانون من غدرها وتبديلها الأصحاب ونفورها من الزوج إذا كبر،، قال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني **** خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله **** فليس له في ودهن نصيب
على أن الشاعر الجاهلي في ماديته لا يعنى كثيرا بوصف أخلاق المرأة، وعرض نفسيتها وتحليل عواطفها، فهو يحسن تصوير الأشياء المرئية التي تبعث فيه الشعور والاشتياق، ولا يحسن مع ذلك تصوير مافي النفس من خوالج وانفعالات، وربما ظهرت شخصية المرأة في شعرهم عامة مشتركة، لتواطئهم على أوصاف راتبة لا يجاوزونها.
والغزل الجاهلي بما فيه من فطرة لا يخلو من سذاجة التعبير عن حب الشاعر وتضجره من العواذل، ولكن فيه من الأنفة والإباء ما يرفعه عن التذلل والعبودية، وكثيرا ما تمتزج ألفاظ الحب بألفاظ الحرب لاسيما عند الشعراء الفرسان.
¥