تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما فائدة الكلام، والكلام الذي دار كثير، وقد كان ممكنا، مادام الوضع هكذا، زوجة حلوة قوامها كقوام المانيكان، وساقها حتى في الظلام يظهران من قميص النوم في إغراء لا جمهور له، وحتى هناك تواليت وماكياج للنوم وعناية خاصة بالشعر، ودهان مخصوص للبشرة وزوج هناك دائما بينه وبين لحظة النوم مشاكل لا بد لها من حل، زوج امتلأت روحه بالتجاعيد مثلما فقد رأسه الكثير من الشعر وعيناه القدرة على الرؤية ... ما دام الوضع هكذا، فقد كان ممكنا أن يدور الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها حول أي موضوع، كالعادة، لا تلتقي عنده وجهات النظر، المهم أنهم أصبحا بشيء من التحدي ينتظران الصرخة الثالثة، التي لن تجيء كما يؤكد الزوج والتي لا بد أن تأتي كما تصرخ الزوجة ومن المطبخ هذه المرة كان المصدر واضحا ولا شك في أمره، انطلق مواء كمواء القطط، يحاول صاحبه كبته وخنقه فيخرج مضغوطا ثاقبا إرادته فيبدو كما لو كان رجل قد قرر بجماع ما يمتلكه من قوة ويسبق إصرار، أن يتأوه كما يريد، ولتقم القيامة بعدها، انطلق صفير معذب متألم متظلم باك غاضب كافر مستغيث بائس مؤلم زاهد ... آي، آي. آي. آي طويلة وقصيرة، ممدودة ومبتورة عاليه بكل قواه يرفعها، منخفضة بجماع إرادته يخسفها، مجروحة دامية، لاسعة كالنار في العين، كاوية كصبغة البود في الحلق ... حارق كآثار الحامض المركز.

فتحت الزوجة فمها تصرخ في هوس من تأكد قولها، وانتظرت أن تنتهي الصرخة لتطلق صرختها هي ولكن انتظارها طال، وبدأت رغما عنها تسمع، ومن المذهول استمر فمها مفتوحا وأذناها بأمر قوة قاهرة تصغيان، ثم بدأت ترتجف وتقترب من زوجها وتمسك بيده لتوقف الرجفة، ونفس اللحظة التي كانت قد قررت فيها أن تطلق لفزعها العنان وتتغيث صارخة، انتهت الصرخة فجأة، وكأنما انكسر الجهاز الذي يصدرها.

وكان الصمت الذي حل تاما ساحرا كالدواء الشافي المعجز لو لم يحل، وفي اللحظة التي جل فيها، وعلى تلك الصورة الكاملة، لفقد أحد أو الجميع عقولهم.

قالت الزوجة بعد جرعة صمت سخية، كده يا حديدي .. كده ..

وأجاب بهمس مناه ألا يصدر: أرجوك يا عفت ... أرجوك ...

ولكنها لم تستجب، بفحيح أكثر انخفاضا وإلحاحا سألته: بس أنا عايزه أعرف ... أرجوك أنت ... أنا ح أجنن عايزه أعرف ... ماوديتوش لوكاندة ليه .. ما سبتوش يتحرق مع أهله ليه ... عملت كده ليه أرجوك قولي بس ... عشان ما اجننش ...

كيف يخبرها نفسه لا يدري لماذا أقدم على ما أقدم عليه، كان قد اتخذ قراره من زمن وكف تماما عن مساعدة أهل " زينين " وتوظيفهم والتدخل لقضاء المصالح أن أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز من بينهم واحد حتى يتاسبقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حل مشاكلهم، مشاكل لو تفرغ لها لاحتاج لأضعاف أضعاف عمره، فلا يوجد إنسان إلا وله مشكلة حادة ملحة تطلب الحل وتستحثه، ومائة ألف نسمة في زينين وما حولها بمائة ألف مشكلة، بقرار حاسم باتر منه أن تبقي له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تريد إنزاله وجره إلى حيث هم وكأنما لا يطيقون رؤية البارز العالي ولا يسترحون حتى يبرك مثلهم ويعجز.

ولكن السكرتير جاءه قرب الظهر قائلا: إن أبا فهمي وعمه بالخارج وأنهما يريدان رؤيته، وحياته ليس فيها إلا فهمي واحد , أول، وربما آخر طفل أو إنسان يعترف الحديدي لنفسه إنه أذكى منه، كان فهمي إذا وقف ليجيب وقد عجز الفصل عن الإجابة التفت الحديدي بكليته ناحية، يتأمل ملامحه الشاحبة، ووجهه الملئ بالعظام النائتة والذي تكسوه مع هذا غلالة من مهابة خفيفة، مهابة التفوق أو العبقرية، وكل كلمة ينطقها كان يتأملها وتبهره حتى الطريقة التي ينطقها بها، فكل كلمة كانت الصواب بعينة، كل كلمة بالضبط ما يجب أن يقال وما يعجز الجميع عن قوله، فهمي كان يقولها ببساطة ودون أي جهد، في ذلك الفصل من المدرسة الإلزامية ذي الجدران المتساقطة الطلاء الكاشفة عن الطين الذي بنيت به الحيطان، الفصل ذي السبورة الكالحة البالغة الصغر وكأنما هي سبورة خاصة لتلميذ واحد، المزدحم بعشرات الطواقي الصوف والبيضاء القطن وأحذية الإخوة الكبار أو ربما الآباء والقباقيب والحقائب القماشية التي صنعتها كل أم لابنها، أو خبطت على المكنة فوق البيعة مع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير