الغريب أنه ينظر إليها وكأنه حياة غريبة عنه لا تربطه بها أو بصاحبها أدنى علاقة لا تربطه ذكرى بأي جزء فيها أو موقعة وأغلب الظن أنه لا يذكرها أنه لا يكره شيئا في الدنيا قدر كراهيته لحياته تلك أنه يمقتها ولولا النداء القوي الصادر له من فهمي لحملها في التو وقضى عليها وعلى نفسه ولكن النداء أقوى أنه يتسرب إلى كيانه كله ويهز هيكل الحياة فيه ليوقظ حبه الغريزي لها. ومن الظلام الكثير الرابض يملأ الصورة تبدأ تتسرب موجات كاشفة مضيئة يجسر معها على التحديق والرؤية ليتابع نفسه وهو يجري ويجري وحده الناس تحيا وهو يجري والشاشة مليئة بالصلات المقطعة بالصداقات المبتورة بأجزاء العلاقات بقيم على الطريق مهدرة بإنسان لا يريد أن يرتبط بأحد حتى لا يعطله الارتباط ولا أن ينتمي لجماعة أو حتى لصديق لأن في الانتماء فقدانا لذاته الحرة وكيانه، والنتيجة جري سريع إلى قمة الوصول هو في الحقيقة هرب سريع من الحياة فالحياة هي الأحياء وأن تنفصل عن الأحياء معنا انفصال عن منبع الحياة الأصيل وفقدان طعمها ونوعيتها والتحول إلى الموت. الخطأ الفادح الذي يدركه الآن وعلى الضوء الباهر الصادر من أعماق فهمي إلى أعماقه يراه أن الوصول لا قيمة له بالمرة إذا وصلت وحدك أية قيمة أن تصبح ملكا متوجا أو عالما حاصلا على جائزة نوبل وأنت محاط بصحراء جرداء أية قيمة لأي شيء في الدنيا للمتعة نفسها أن تحس بها وحدك؟
وصحيح أنه ليس وحده فهناك زوجته وابنة وأقرباؤه وأخوته وبعض الأصدقاء ولكنها ديكورات علاقات ليس إلا ... إن حب الناس للناس وارتباط الناس بالناس لا ينشأ للزينة وإنما ينشأ لحاجة الناس للناس الحاجة الماسة الملحة كحاجتك إلى الماء والهواء والتي بدونها لا تستطيع أن تعيش وهو له أخوة وزوجة وأناس ولكنهم لا يمثلون مطلبا حيويا بالنسبة إليه أن في استطاعته إذا أراد أن يحيا كما تعود بدونهم قد يكونون هم في حاجة إليه ... ولكنه هو ليس في حاجة لأحد أو بالاصح هو في حاجة حيوية مساة، ولكنه يحس ويوهم نفسه مثلما أوهمها طول عمره أنه ليس بحاجة اليهم ومن هنا ينشأ ألمه البشع .. من هنا بدأ ويستشري السرطان الذي يقتل الضحكة على فمه لأنه يحس أنه ليس بحاجة إلى الضحك ويجمد العواطف في صدره لأنه يحس ليس بحاجة إلى أن يعطي الحب أو يستقبله من هنا تبدأ المأساة التي أحالته إلى ميت حي.
وجاءته صرخات فهمي قريبة هذه المرة إذ كان قد وصل إلى المطبخ وجلس بجواره جاءته بعد سكوت خيل إليه أنه طويل وكان مجرد إحساس فهمي بوجوده بجواره خفف عنه الألم .. جاءته الصرخات، أقرب ما تكون إلى البكاء وأحس بنفسه وكأن بركانا باكيا يوشك أن ينفجر أنه لم يبك في حياته منذ أن كان طفلا وها هو يحس أنه يود لو ظل يبكي إلى أن توافيه المنية إشفاقا على نفسه وهو أول من أدرك أنها أكثر أهل الأرض جميعا حاجة إلى الشفقة ...
هات يدك يا فهمي ضعها هنا على صدري إنه خاو كما ترى أنا أعرف أنك مريض وأحس بك وأريد أن أقاسمك الألم ولكن لا أستطيع فقلبي من خشب، تركتكم جميعا أنت في زينين وسعد في بنها وعبد المحسن في أسيوط وشلة الجامعة وجمعية الكتاب. وكل الناس وظننت أنكم تسيرون في الطريق العادي طريق الندامة ... وأن الطريق الأسرع طريق السلامة هو الطريق ... والنتيجة أني مت من زمن وظللتم أنتم أحياء أنا جثة أقنع نفسي أنني أنا الذي أزور عن الناس في حين أنهم هم الذي ينزورون عني وما حاجتهم إلى جثة حتى زوجتي وابني أحس أنهما لا يطيقان رائحتي ... أنا أريد العودة يا فهمي أريد البداية من جديد أطلب فرصة أخرى فمن يقبلني يا فهمي؟ من يقبل جثة من يرضى بي إني لا أجد في هذه اللحظة سواك يا فهمي هل تقبلني ... هل تقبلني يا فهمي!!
- ما تعيطش يا محمود ..
ولم يصبه الذهول مع أن القائل كان فهمي. وكان أول كلمات ينطقها ولم يعجب أيضا لأنه ناداه بمحمود. وكأنما ذكره الاسم بالتختة المشتركة وبأيام زمان كل ما أحس به أن رجاه قد تحقق. وأنه يقول:
- أشكرك يا فهمي ... أشكرك ..
وانبطح الحديدي ببجامته على بلاط المطبخ وتناول يد فهمي يقبلها ومسح بها دموعه السائلة التي لا تتوقف وهو يردد سامحني يا فهمي ... سامحوني يا ناس أنا غلطت وتعبت والألم فاض بي ... سامحني يا فهمي.
ولكن فهمي كان قد عاد بآخر وأقوى ما عنده، يصرخ وىلامه قد اشتدت بغتة ... وكانت توافذ البيت جمعيها قد فتحت من زمن وسكانها يصيحون رغم أنوفه للآهات المستغيثة .. ويستجيرون من الصوت الذي لا يرحم أبوابهم ونافذهم مهما أغلقوا وأحكموا الإغلاق الصوت الذي أيقظ العمارة ببوابيها وبهواتها وسادتها وداداتها وبدأ يصل إلى العمارات المجاورة ويوقظ سكانها، ولو استمرت الصرخات لربما كانت قد أيقظت الحي الراقي بأكمله، ومن يدري بما المدينة كلها كانت قد صحت ... ولكنهم كانوا قد طلبوا بوليس النجدة ... وحضر وفتحت له الزوجة نصف نائمة غير أنها استيقظت تماما حين قادتهم إلى المطبخ ووجدتت الحديدي راكعا على الأرض يقبل يد فهمي ويتسغفره ...
ورفعوا فهمي وألبسوه وحاول جنديان حمله فيما بينهما ولكن الحديدي نهرهما، وتقدم هو من فهمي وحمله على كتفه والمرض قد التهم لحمه ولم تبق له سوى العظام، وتشبثت عفت بزوجها سائلة إياه عما يفعله بنفسه إلى أين ذاهب؟ وابتسم لها وأضاء وجهة كما تتعود بالابتسامة وقال: رايح في طريق تاني صعب شديد ... تيجي معايا؟!
- أنا مارحش وياك بالشكل ده .. أنت اجننت؟
وأحاطت فهمي الصغير بيدها بينما استدار الحديدي بحملة الصارخ المولول ومضى يتقدم الموكب، ونظرات السكان وأهل الحي تتبعه وتحيط به تهمس وتسري بينها الهمسات الضاحكة ... لقد عاش في الحي سنتين مرعوبا أن يكتشف أحد أصله وفصله وتبدو للأعين النائمة شعره واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمت إليها ... ولا ريب أن كثيرين من سكان الحي كانوا يفعلون مثلة فها هو يرى النافذ والمدخل حافلة بكثير من الجثث ... وهو الآن يستعجل اللحظات التي يغادر فيها الحي ... وقد أصبحت الرائحة لا تطاق.
¥