تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولقد كان العرب في عصر نزول القرآن في مستوى يمكنهم من التفاعل مع النص القرآني، والاستجابة لإيحاءاته، والتأثر ببلاغته وسحر بيانه، ولم يكن هناك ما يحول بينهم وبين ذلك، فقد كانوا يفهمون معانيه، ويتذوقون حلاوته، ويعرفون أساليبه، فعكفوا على قراءته ودراسته وأمعنوا في تدبر آياته واستكشاف أسراره، فغاصوا في أعماقه باحثين عن درره، مستنبطين لأحكامه، مستلهمين لتوجيهاته، فوجدوا فيه حلا لمشكلاتهم، وشفاء لما في صدورهم، ونورا لأبصارهم وبصائرهم، وهداية في كل شأن من شؤون حياتهم.

ثم بدأ هذا المستوى السامق يتدنى شيئا فشيئا بفعل اختلاط العرب بغيرهم، وبدخول الأمم والشعوب في دين الله أفواجا، فتطرق الضعف إلى اللغة، وفشا اللحن في اللسان، وظهرت الحاجة إلى ضبط القراءة، وإلى ضبط الفهم، والاستنباط، فنشأت لذلك علوم العربية، من نحو، وصرف، وبلاغة. ونشأت علوم القرآن من رسم، وقراءات، وتفسير، كما نشأت العلوم الشرعية الأخرى من حديث، وفقه، وأصول. إلى غير ذلك من علوم العربية وعلوم الشريعة والتي تهدف كلها إلى خدمة القرآن الكريم وتمكين المسلم من أن يرتع بمستواه للتعامل مع القرآن، والتفاعل معه، والتأثر به، وليكون قادرا على فهم معانيه واستنباط أحكامه، واستلهام توجيهاته .. كما كان الشأن في جيل الصحابة رضوان الله عليهم.

وسارت الأمور في هذا الاتجاه الصحيح فترة من الزمن، وكانت كل تلك العلوم في خدمة القرآن الكريم والمساعدة على فهمه. ثم بدأت هذا العلوم مع الزمن تتسع شيئا فشيئا، وتنحو منحى الاستقلال، وأصبح في كل علم من العلوم ما لا يحصى من الكتب والمؤلفات، وغدت الثروة العلمية والفقهية التي خلفها لنا علماؤنا ينوء بها العصبة أولو القوة وتفنى الأعمار دون الإحاطة بها، وإدراكها، وتمثلها، على الرغم من أنها تتفاوت صحة وضعفا، وخطأ وشذوذا، وبعدا عن الجادة واستقامة عليها، ومع تطاول الزمن، واتساع العلوم، وتنامي استقلاليتها وتخصصها، أصبحت هذه العلوم محور الدراسة، وموضع الاهتمام، فبعد أن كانت وسيلة مساعدة على فهم القرآن غدت غاية بحد ذاتها، ومن ثم انصرف إليها الدارسون وطلبة العلم يولونها كل اهتمامهم، ويوجهون إليها معظم نشاطهم، وينفقون في سبيلها جل أوقاتهم وأعمارهم، ولم يعد الاهتمام بالقرآن والسنة في المقام الأول وإنما أصبح في المقام الثاني، ومن ثم ضعفت الصلة بالقرآن والسنة، ولم يعد لهما ذلك الأثر الفعال في تغيير السلوك الذي عرفناه في الأجيال السابقة، فتوقف العقل المسلم عن النشاط، وفقد كثيرا من فاعليته التي أفاضها عليه القرآن نتيجة تفاعله معه، وظهر من ينادي بإغلاق باب الاجتهاد نتيجة العجز العقلي الذي ألقى بظلاله على المجتمع الإسلامي.

ثم في مرحلة من مراحل تاريخ هذه الأمة يغدو القرآن في واقع بعض المنتسبين للعلم وسيلة يستعان بها على إيضاح بعض العلوم التي كانت وسيلة لإيضاحه فكأن مهمته تقصر على تقديم شواهد لتوضيح القواعد النحوية والبلاغية وغيرها من العلوم الأخرى، ولو طلب إلى من يقرر هذه القواعد البلاغية أو النحوية أن يعرفنا بمعنى الآية التي يستشهد بها للاستدلال على قاعدته لوقف أمامنا فاغرا فاه متعجبا ولألفيناه يقول بأن اختصاصه إنما هو النحو أو البلاغة، وأنه لا يعرف من الآية إلا موضع الشاهد. وهكذا يغدو القرآن – في نظر أمثال هؤلاء – مجموعة من الشواهد التي يستخدمها علماء هذا الزمان لتوضيح قواعدهم.

ومثل هذا الذي قيل في شأن علوم العربية يمكن أن يقال في بعض العلوم الشرعية، كعلم الكلام " علم التوحيد" الذي تأثر بمنطق أرسطو وفلسفة يونان، وتحول إلى مدارس فكرية واتجاهات مذهبية، تنحو مناحي مختلفة وتتخذ طرائق قددا، فغدت كل فرقة تبحث في القرآن عن شاهد يؤيد وجهة نظرها ويشهد لقولها ومذهبها، وبذلك وقعت الأمة في داء الفرقة والاختلاف وكل يريد أن يقول بأن ما ذهب إليه هو الذي جاء به القرآن.

أما ما انتهى إليه الأمر في شأن هذه العلوم فقد تجاوز ذلك كله، حيث أصبحت كثير من هذه العلوم بدائل للقرآن تدرس في غيابه وفي منأى عنه، ظنا منهم أن كل العلوم التي حواها القرآن قد استخرجت منه وأفردت بالتأليف بكتب مستقلة، ومن ثم لم يعد في القرآن إلا نصوص تتلى بقصد البركة والثواب الأخروي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير