إن ما آلت إليه الأمور من انحطاط في العقل، وجمود في الفهم، وعكوف على كتب المتأخرين حفظا وتسميعا واختصارا وتلخيصا، أو شرحا وتحشية، أو صياغة عل طريقة النظم، أو غير ذلك مما شغل به الناس أنفسهم في العصور المتأخرة لن يحل مشكلة، ولن يبعث نهضة، ولا يمكن أن يكون سبيلا لاستنقاذ أمة ولا باعثا على استئناف حياة جديدة.
إن الحياة لا يمكن أن تدب في هذه الأمة إلا بوحي الله] وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ولا يمكن أن تكون إلا في الاستجابة لهذا الوحي] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [فكلمات الله ووحيه هما القادران على بعث الحياة من جديد في هذه الأمة، وهما القادران على إمدادها بما تحتاجه من القوة والطاقة.
إن نصوص القرآن الكريم غنية بالمعاني التي لا تحد، والتوجيهات التي لا تنفد، والأحكام التي تلبي حاجة الأمة إلى يوم القيامة، ومن ثم فلا بد من العودة إليها ودراستها في سياقها واستلهامها في حل مشكلاتنا، ومعالجة قضايانا، وبدون ذلك لا يمكننا أن نفهم حكمة الأمر الإلهي بكثرة قراءة القرآن، وتدبر معانيه والتفكر في آياته، واستخلاص عبره وعظاته، وليس من حقنا أبدا أن ننهي مهمة القرآن ووظيفته الأساسية بقصره على مجرد التلاوة واحتساب الثواب على ذلك عند الله. ثم الاستغناء عنه بما كتبه الناس، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن ما كتبه العلماء واستنبطه الفقهاء يعتبر ثروة كبرى لهذه الأمة في مجال العلم والمعرفة لا يمكننا أن نفرط فيها أو نتجاهلها، ولكننا في نفس الوقت لا يمكننا أن نعتبرها بديلة للقرآن أو مغنية عنه كما لا يمكننا أن نعتبرها الكلمة الأخيرة التي ليس بعدها مقال، وإنما ينبغي دراستها في ضوء النصوص القرآنية والحديثية، وليس بمنأىً عنها، وهذه الدراسة في ضوء النصوص كفيلة بتوسيع دائرة الرؤية، وتوضيح كثير من الجوانب التي لا يمكن أن تتضح في غيبة النصوص، مما يؤدي إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، أو ظهور فهم جديد نتيجة لمراعاة سياق الكلام، أو لمراعاة مجموع النصوص الواردة في القضية أو غير ذلك من المقتضيات التي تحكم الفهم والاستنباط.
ثم إن هناك جوانب كثيرة مما عرض له القرآن لا تزال بكرا تحتاج إلى بحث ودرس، وذلك فيما يتصل بالدراسات النفسية والإنسانية والتي لم تأخذ حظها الكافي من البحث والدرس في تراثنا الثقافي والعلمي، وما مس منها مس مسا رفيقا، وما يزال بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر، وبخاصة في ضوء الدراسات الحديثة التي توسعت كثيرا في هذه الجوانب، وأصبحت لها علوم مستقلة، ودراسات مستفيضة.
إن على الباحثين الإسلاميين أن يأخذوا هذا كله بعين الاعتبار، وأن تكون اجتهاداتهم في ضوء النصوص، وألا يكتفوا من النص بالجزء الظاهر الدلالة على الغرض، وإنما عليهم أن يوسعوا نظرهم في سياق الكلام وسباقه، وأن يتعرفوا على مناسبته التي نزل بها، ويراعوا مقاصده وحكمه، ويضموا إليه أشباهه ونظائره، إلى غير ذلك من الأمور التي لا بد من مراعاتها لمن أراد أن يجانب الخطأ ويقارب الصواب، هذا بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه من ضرورة الاطلاع على كتب التراث، والتعرف على ما قاله الأئمة العلماء والمجتهدون السابقون، وتفهم وجهة نظرهم وطريقة استنباطهم، فإنهم القدوة لنا في أصول الفهم ومناهج الاستدلال، وإن اختلفنا معهم في الاستنتاجات والمسائل، كما اختلفوا هم فيما بينهم.
- القرآن والعلوم الشرعية:
من المعلوم أن العلوم الشرعية وثيقة الصلة بالقرآن، وأنها تهدف إلى خدمته وتوضيحه. ولكن لا بد لنا من أن نبين كيف نشأت هذه العلوم، وما لابس هذه النشأة من أمور أدت إلى نوع من الخلل والقصور في بناء هذه العلوم، وخير من تعرض لمعالجة هذا الموضوع العلامة عبد الحميد الفراهي، ونحن مضطرون – هنا- إلى بيان وجهة نظره، وفي ذلك يقول: لا يخفى أن الدين معظمه ترقية النفوس وتربية العقول وإصلاح الأعمال الظاهرة، أي: الأخلاق والعقائد والشرائع.
والقرآن قد تكفل بكل ذلك على أحسن ما يكون، وكل ذلك متصل بعضه ببعض وبجميعه تحصل التزكية وهي الغاية والمطلوب.
ولهذه الثلاث نشأت ثلاثة علوم: علم الأخلاق والمواعظ/ وعلم الكلام / وعلم الفقه.
¥