وفي الكلام إيجاز بالحذف، إذ حذف عامل النصب في "أياما" المقدر بنحو: صوموا أياما، لدلالة السياق عليه، كما أشار إلى ذلك الألوسي، رحمه الله، وفي قوله: "أياما معدودات": إزالة لإبهام الصيام في الآية الأولى، وكأنك ترى المخاطب لما تُلِيَ عليه الأمر بالصيام، تبادر إلى ذهنه السؤال عن مدة الصوم بنحو: وكم يوما نصوم؟، فجاء البيان: صوموا أياما معدودات، ولكنه بيان جزئي لا يشفي الغليل، إذ ما زال الإبهام واقعا في عدد تلك الأيام ومكانها من أيام العام، أفي شعبان أم في رمضان؟ أفي الصيف أم في الشتاء ......... إلخ من الاحتمالات العقلية، فجاء البيان الشافي الوافي في صدر الآية الثالثة: "شهر رمضان"، كما سيأتي إن شاء الله، وإلى هذا التدرج في البيان أشار الألوسي، رحمه الله، في تفسيره.
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: أي: فله أن يفطر ويكون صيامه عدة من أيام أخر، ففي الكلام إيجاز بالحذف، دل عليه السياق اقتضاء، ودلالة الاقتضاء أصل يفزع إليه في مثل هذه المضائق، وفيه رد على الظاهرية، رحمهم الله، الذين أوجبوا الفطر على كل مريض أو مسافر عملا بظاهر الآية دون التفات إلى دلالة الاقتضاء على عادتهم في اعتبار الظاهر المنطوق دون ما سواه من دلالة إشارة أو اقتضاء أو مفهوم.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ: تقديم ما حقه التأخير. وفيه من التكليف بـ: "على" التي تفيد وجوب الشيء على المخاطب ما يشعر بأنه، وإن كان جائزا، إلا أنه خلاف الأولى.
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ: بيان للفدية بعد إجمالها، وهو من أجلى أقسام البيان، إذ جاء عقب الإجمال مباشرة، فالبدل أو عطف البيان: "طعام مسكين" مبين لإجمال الفدية.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَه: شرط جيء به لاستنهاض همة المكلف فلا يرضى إلا بما هو خير.
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ: التعبير بأن ومدخولها يفيد من استحضار معنى الصوم طيلة يومه ما لا يفيده التعبير بالمصدر المؤول: "وصيامكم خير لكم"، فالتجدد المستلزم لتمام المراقبة في: "وأن تصوموا" لا يتحقق في الإتيان بالاسم، وكأنك ترى الصائم في اليوم القائظ، وقد تطلعت نفسه إلى الماء البارد فاستحضر معنى الصيام المتجدد في: "وأن تصوموا" فكفها عن خاطر السوء وردها إلى جادة الصواب.
تماما كما قيل في قوله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فاستحضار معنى الصبر المتجدد في: "وأن تصبروا" يكف النفس عن نكاح الإماء وإن كان مباحا فهو رخصة، فلا تتطلع النفس إلى شهوة حرام، تتجدد بتجدد أسبابها، إذ يجدد لها من معاني الصبر ما يكف بأسها، لاسيما في الأعصار المتأخرة التي عدمت فيها الرخصة والعزيمة!!!!، فلم يبق إلا الصبر إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وفي الصوم من معاني الصبر ما فيه، ولذلك كان دواء ناجعا لمن هذا حاله.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: إلهاب لمشاعر المخاطب على طريقة: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
والالتفات من غيبة: "فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ" إلى خطاب: " إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ": يزيد الإلهاب والتهييج على الفعل شدة، فصار الحض على الصوم حاصلا بثلاث جمل:
الأولى: "فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ". فتعليق الخيرية على الصيام، ولو كان تطوعا، مشعر برجحان فعله على تركه كما تقدم.
والثانية: "وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لكم": على التفصيل السابق في تجدد المعنى في الفعل: "تصوموا".
¥