تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والثالثة: "إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ": فهو شرط ثان باعث على الفعل، وجوابه محذوف دل عليه السياق اقتضاء، فيكون فيه، إيجاز بالحذف، فتقدير الكلام: إن كنتم تعلمون اخترتموه، (أي: الصوم)، أو سارعتم إليه وقيل: معناه إن كنتم من أهلِ العلمِ والتدبُّر علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، وكل ذلك بمنزلة التوطئة إلى إيجاب الصوم لزوما في الآية التالية، فإن ذلك الحث المؤكد بالتكرار على الصوم مع مشروعية الفدية مؤذن بنسخ الرخصة، وإلزام المكلفين بالعزيمة.

*****

شَهْرُ رَمَضَانَ: بيان نهائي مزيل لإجمال زمن الصوم قدرا ومكانا، فالصوم الواجب قدره: شهر، ومكانه: رمضان، وفي الكلام إيجاز بالحذف إما على قراءة:

"شهرُ": فيكون تقدير الكلام: هو شهر رمضان، أو: ذلك شهر رمضان، فيكون في الإضمار أو الإشارة نوع توكيد، فما سبق من الإجمال بيانه هو شهر رمضان.

أو على قراءة: "شهرَ": بتقدير عامل محذوف كـ: صوموا شهرَ رمضان، أو يكون النصب على الاختصاص بتقدير: أعني شهرَ رمضان، أو أخص شهرَ رمضان بما سبق من إيجاب الصوم، ففيه، أيضا، من العناية بشأنه والتوكيد على وجوب صومه ما فيه.

الذي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ: توضيح للشهر بأشرف أوصافه ففيه نزلت أشرف الكتب الإلهية.

وجاء بالفعل: "أنزل": مبنيا لما لم يسم فاعله، للعلم به، فالمنزل على قلب الرسول البشري بواسطة الرسول الملكي هو الرب العلي جل شأنه وتقدس وصفه.

وأنزل من "الإنزال": الذي يفيد النزول جملة واحدة، وهو ما وقع بالفعل ليلة القدر، إذ أنزل فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، بخلاف "نزل" بالتشديد، فهو من "التنزيل"، فيفيد التكرار، على طريقة: الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، وهو ما وقع بالفعل طيلة بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ كان القرآن ينزل نجوما مفرقة: ابتداء بلا سبب، أو على سبب كما قرر أهل العلم.

هُدًى لِلنَّاسِ: بيان لعلة الإنزال ففيه من المسائل الخبرية والأحكام العملية ما يهدي الناس إلى خيري المعاش والمعاد.

وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ: فليست مسائله خبرية بلا براهين عقلية، كما ادعى من ادعى من أرباب الفلسفة والكلام، وإنما احتوى: الأخبار والأحكام بأدلتها النقلية والعقلية، ففيه من طرق الجدال العقلي الصحيح ما يلزم المخالف الحجة، ويورث الناظر فيه طمأنينة القلب وقوة العقل.

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ: نسخ لما سبق من رخصة، بعد تمام التوطئة لذلك في الآيات السابقة، و "أل" في "الشهر" عهدية تشير إلى المعهود الذكري المتقدم: "شهر رمضان".

وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: دلالة اقتضاء سبق بيانها، فتقدير الكلام: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فأفطر فصيامه َعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: إرادة شرعية، وإن لم يرده كونا في حق بعض المكلفين ممن شددوا فشدد الله عليهم، وفي حديث عائشة، رضي الله عنها، مرفوعا: (عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ).

والرهبانية مظنة السآمة والملل، وفي التنزيل: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، إذ كل ما خرج عن حد المألوف مظنة الانقطاع.

وعند أبي داود، رحمه الله، في "سننه"، وأبي يعلى الموصلي، رحمه الله، في "مسنده"، واللفظ له، من حديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: (رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) ".

والتعبير بالمضارع: دليل التجدد، ففيه من إظهار الله، عز وجل، العناية بإصلاح شئون عباده ما فيه.

وفي المقابلة بين: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ" و: "وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"، أو: طباق السلب في: "يريد" و "لا يريد"، وطباق الإيجاب في: "اليسر" و "العسر"، في كل ذلك من بيان نعمة الله، عز وجل، على عباده بالتخفيف ما فيه، إذ بضدها تتميز الأشياء.

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: تعداد لبعض حِكَمِ الصوم ففيه إتمام للعبادة يعقبه تكبير وتحميد، لعل العبد يؤدي بعض شكر نعم الرب، جل وعلا، عليه، فلن يبلغ تمام ذلك، وإن واصل الليل بالنهار شكرا وذكرا.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير