والمقصود بكل ما سبق بيان الضعف الشديد في الاحتجاج الذي احتج به بعض منكري الإجماع، وهو قوله (الإجماع إما أن يوافق الكتاب والسنة وإما أن يخالفهما؛ فإن وافقهما فهو تحصيل حاصل، وإن خالفهما فلا عبرة به)!!
فإن هذا الكلام واضح التهافت، ولا يخيل إلا على الصغار أو المبتدئين من طلبة العلم؛ لأنه يفترض ابتداء أننا نعلم المقصود من الكتاب والسنة، ثم يفترض حالتين لا ثالث لهما في الموافقة والمخالفة، وكل هذا واضح البطلان، وهو يشبه قول من قال: (إذا اختلف العقل والنقل فإما أن نقدم العقل وإما أن نقدم النقل .... إلخ).
فالعقل والنقل أصلا لا يمكن أن يختلفا؛ فكذلك الإجماع لا يمكن أن يخالف الكتاب والسنة، وأنا أتحدى أي إنسان على ظهر الأرض أن يأتيني بنص من الكتاب والسنة أجمع العلماء على خلافه بشرط أن يكون هذا النص واضحا لا يختلف اثنان في فهمه.
فالذي ينكر الإجماع أو يقول: لا عبرة به إذا خالف النصوص، كلامه متهافت ساقط؛ لأن الإجماع هو الضابط الذي نفهم النصوص من خلاله، فهو مجرد قيد لكي لا نفتح الباب للجهلاء أن يناقضوا العلماء، أو أن يجتهدوا بحسب فهومهم السقيمة، فلو لم يتقيد المجتهد بهذا القيد انفتحت أمامه كل سبل الضلال والفساد، ولم يكن هناك شيء يحكمه في اجتهاده المزعوم.
فنصوص الكتاب والسنة المعلومة الواضحة لا يمكن أن تخالف إجماع الأمة، ولكن يمكن أن يخالف فيها بعض الناس، أما أن يأتي النص من الكتاب أو السنة واضحا لا يتمارى اثنان في دلالته، ثم تجمع الأمة على خلافه؟! فهذا ما لا وجود له فيما أزعم.
بل الأمر أكبر من ذلك في نظري، فأنا أدعي أنه لا يمكن أن يستقيم استدلال على أمر شرعي من غير استعمال الإجماع إما صريحا وإما ضمنيا، ومن استطاع أن يستدل على مسألة شرعية واحدة من غير أن يستعمل الإجماع مطلقا لا تصريحا ولا تضمنا، فله مني جائزة.
ـ[نزار حمادي]ــــــــ[21 Sep 2008, 11:38 م]ـ
الأخ الكريم (نزار حمادي)
قولك (الظن مع الظن مع الظن لا يفيد إلا ظنا) هذا فيه نظر واضح.
ولو كان هذا صحيحا، لما كان هناك حديث متواتر، ولما كانت نصوص القرآن قطعية الثبوت، ولما كان هناك قطعيات في الشرع أصلا.
الحديث المتواتر ما هو؟ هو في الأصل رواية واحد ثم واحد ثم واحد حتى صار متواترا، فلو كان الاجتماع لا يفيد شيئا لما كان هناك شيء اسمه التواتر أصلا.
السلام عليكم
أراك تكثر من الاعتماد على القياسات الاستثنائية في استدلالاتك، لكن اللزوم غير متحقق في أكثرها. كقولك مثلا: لو كان هذا صحيحا لما كان هناك حديث متواتر، وتشير في المقدم من قياسك إلى قولي: الظن مع الظن مع الظن لا يفيد إلا ظنا، وهو حق لأنه ما لم ينضم إلا الظنون قاطع لن يتغير حالها وستبقى مفيدة للظن فحسب، وأما في مسألة الأخبار التي بلغ أصحابها حد التواتر فقد انضم إليها قياس عقلي خفي اقتضى أفادتها القطع، وهو قولنا:
هذا خَبَرُ جَمْعٍ يستحيلُ كذِبُهم (مقدمة صغرى)
وكل ما كان كذلك فهو حَقٌّ (كبرى)
فهذا خَبَرٌ حَقٌّ (نتيجة)
فالتواتر ثابت في القرآن والسنة، لكن ليس بمجرد جمع الآحاد بدون ملاحظة ذلك القياس العقلي القطعي الخفي، وهذا مقصودي من أنه ما لم ينضم القطع إلا الظن لم يفد الأخير إلا ظنا.
ثم لا يخفى أنا نتحدث عن إفادة التواتر القطع بأن المسموع من الأخبار إنما هي منسوبة إلى الله تعالى أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أما مفهوم تلك الأخبار ومدلولاتها فشيء آخر، فمثلا الآية التي استدل بها الإمام الشافعي على حجية الإجماع مقطوع بنسبتها إلى الله تعالى بالتواتر المفيد للقطع بأنها من القرآن، لكن دلالتها على حجية الإجماع مظنونة ولذلك اختلف العلماء الأخيار فيها هل تدل على حجية الإجماع دلالة قاطعة أم لا. والله تعالى أعلم.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[21 Sep 2008, 11:55 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قولك (هذا خبر جمع يستحيل كذبهم) ليست مقدمة، بل هي النتيجة المقصودة هنا.
فما الدليل على أن هذا خبر جمع يستحيل كذبهم؟
هذا أولا.
وثانيا: متى صار خبر هذا الجمع مستحيل الكذب؟ أبعد سماع أول واحد أو ثاني واحد أو ثالث واحد أو رابع واحد .... إلخ؟
لو سرنا بطريقتك في النظر فسنقول: عند سماع أول مخبر يكون خبر واحد وهو ظني، فإذا جاءنا الثاني فسمعناه فهو أيضا خبر واحد وهو ظني، فإذا جاء الثالث فسمعناه فهو أيضا خبر واحد وهو ظني، وهكذا، فلن يمكننا بطريقتك في الاستنباط أن نصل إلى القطع مطلقا؛ إلا إذا اعترفت أن الظن يقوى تدريجيا حتى يصل إلى اليقين.
فإن لم تعترف بهذا فلا معنى لتحول الظن إلى اليقين فجأة، وإن قلت إن تحول الظن إلى يقين عند إخبار الشخص العاشر أو الحادي عشر أو غير ذلك فهو تحكم.
فسبب الإشكال في هذه المسألة هو التسوية بين الظنون وجعلها كلها شيئا واحدا، وهو أمر واضح البطلان بالضرورة.
¥