تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ذكرنا في ما سبق أن الألفاظ تعبير عن مكامن الضمير، وسرائر الوجدان. وما دام الداعي متأدبًا مع ربّه، مظهِراً في مسألته حالة الافتقار إلى الله تعالى، فله أن يدعو بأي لفظ شاء، وله أن يدندن بأي لغة عرف وتعلّم ونطق، وله أن "يَتَخَيَّر مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ"، سواء كان موضوعه متعلقا بالآخرة أو متعلقا بمصالحه الدنيوية.

والصحيح من أقوال أهل العلم: جواز الدّعاء بخيري الدنيا والآخرة بما ورد في الشرع وبما لم يرد، لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: " .. ثُمَّ لْيَخْتَرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو" (1). ولا حجة في تقييد الدّعاء ـ بوصفه عملاً روحياً ـ بأي قيد، من زمان أو مكان أو لفظ، ولا بأية لغة أو صيغة أو نص أو موضوع.

والأمور التي يدعو الإنسان بها تنقسم من حيث ما يُدْعَى به إلى قسمين:

1 - دعاء بأمر لا يجوز شرعاً، كالدعاء بقطيعة الرحم، أو الدّعاء بتيسير المحرمات، كالزنا والسرقة والقتل، فهذا لا يجوز بل هو اعتداء في الدعاء، قد ذمّه الله تعالى بقوله: ?ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ? (2). وقال صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: "يَقُولُ: (قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي) فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (3).

2 - دعاء بأمر جائز، من المقاصد المشروعة أو من خيري الدنيا والآخرة. فهذا مما أمر الله به ودعا إليه، فالعبد مأمور بالدعاء لقضاء حوائجه، كما قال تعالى: ?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ? (4). وقال تعالى: ?وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ? (5).

وقد اعترض بعض العلماء على الترخيص بصياغة الأدعية وقال بوجوب الاكتفاء بالأدعية النبوية، منهم القاضي عياض الذي يرى أن الله تعالى: "أذن في دعائه، وعلَّم الدّعاء في كتابه لخليقته، وعلَّم النّبي صلى الله عليه وسلم الدّعاء لأمّته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة. فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم .. وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام، فقيَّض لهم قوم سوء، يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الإحالة أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر ... فاتقوا الله في أنفسكم! لا تشغلوا من الحديث إلا بالصحيح! " (6).

كما اعترض آخرون على الترخيص بصياغة الأدعية بحجّة أن الدّعاء عبادةٌ، بصريح الحديث النبوي، والأصلُ في العباداتِ أنها توقيفية، أي لا يجوز أن يشرعَ الإنسان عبادةً من عند نفسهِ، بل لا بد أن تكونَ ثابتةً عن النّبي صلى الله عليه وسلم.

والجواب على هذين الاعتراضين من وجوه ثلاثة:

- الوجه الأول: أن الإسلام يعتبر كل عمل صالح - إن صدر بنيّة خالصة - عبادةً لله. ويدخل ضمنها أمورٌ مَعَاشِيَّةٌ، لا تحتاج لأن تكون توقيفية كي تُعَدَّ من العبادة ويثاب فاعلها. ذلك أن (العبادة) في الإسلام عنوان لسائر التعاليم الإسلامية. وهي غاية الحياة التي حددها الله عز وجل: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? (7). والعبادة تشمل: (فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه) (8). فيدخل ضمن العبادة كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الآخرين والدعاء والذكر وحب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله (9).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير