تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في هذه البيئة نبت الشيخ عبده كما ينبت الورد بين الأشواك أو كما ينبع الماء الصافي من بين الصخور، فكان بحق مجدداً لأمر هذه الأمة، وكان بحق نوراً انبثق من أفق الأزهر انتفع به من انتفع، وازور عنه من ازور، وبقى على ذلك قوياً وهاجاً يجذب إليه أنظار المؤمنين وينفذ إلى بصائر المخلصين، زلزل رحمه الله على الجامدين حصونهم، ودمدم عليها بالحجج والبراهين، وكشف الحجاب الذي أسدله الجمود والتعصب على الدين شرعة وعقيدة، فبدأ منه ما كان خافياً وعاد إليه بهاؤه الأول وجلاله القديم، وبدد الغبار الذي عقد حول كتاب الله وأنقذه من شر هذه النزعة التي جعلته وراء الظهور، وآثرت عليه قول فلان وفلان، وليس من الممكن أن نبسط آثار هذا المجدد العظيم في كل ناحية من النواحي، ولكننا نعرض في اختصار إلى موقفه من القرآن فإنه كان يراه أصلاً للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه على أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً، فاستقبله على أنه – كما أنزله الله- كتاب هداية وتشريع وأخلاق، ونهى عن اتخاذه لغير ذلك من الأغراض المادية التي لا تليق بجلاله، والتي تصرف المسلمين عن الانتفاع بهديه وإرشاده، ونبه المسلمين عامة وأهل العلم خاصة إلى مركز القرآن، وأنه المسيطر على كل ما سواه في العلميات والعمليات، يجب أن يتحاكم إليه المختلفون، وأن يخضعوا لحكمه وأن يتركوا جميع الأقوال لقوله فليس أمام حكمه حنفي ولا شافعي ولا سني ولا معتزلي، وقد عنى رحمه الله أشد العناية بتجريده التفسير من كل مالا ثقة به من الروايات والإسرائيليات، وأوجب الوقوف عند الحد الذي قصه القرآن من أحوال الماضي أو أخبر به من شؤون المستقبل، ولم يكن رحمه الله ذا اهتمام كبير بأسباب النزول، بل كان يعتمد في فهم المعنى وربط الآيات على ما يفيده الموضوع وترشد إليه الألفاظ والأساليب، حسب المعهود من اللسان العربي المبين

****

هذه هي طريقة الشيخ عبده في تفسير القرآن، عرفناها واضحة جلية مما كتبه بنفسه كتفسيره لجزء (عم يتساءلون)، الذي فرغ منه كما يقول في آخره: منتصف الساعة السادسة بعد الظهر من يوم الأحد 23أغسطس سنة1903م في مدينة جنيف من بلاد سويسرا، وكتفسيره لآيات خاصة تفنيداً لشبه (1) أثارتها عند خصوم الإسلام، مكانة الجمود والرواية من التفسير، وما دوّنه عنه تلميذه البار السيد رشيد رضا، وهو من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة النساء: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)

****

لم يكن الشيخ عبده من هؤلاء الذين يقترحون ويدعون إلى ما اقترحوا دون أن يكون منهم أسوة عملية تشق للناس طريق ما يقترحون، بل كان رحمه الله عملياً قبل كل شئ، فلم يدع فرصة في حضره أو سفره تمر حتى يلقى فيها دروس التفسير على طريقته ومنهاجه، وقد واظب على ذلك في دروس متتابعة ظل يلقيها بالأزهر نحو سبع سنين، وكان يحضرها كثير من علماء الأزهر والنابهين من طلابه، ويحضرها الكبراء من رجال الدولة والتفكير، حتى أحدث في الأزهر حركة فكرية حادة لفتت أنظار العلماء والمشتغلين بالمسائل الإسلامية في الشرق والغرب إلى الأزهر وإلى الإسلام، بهذا مما ذكرنا وبغيره مما لم نذكر كان الشيخ عبده هو المجدد الإسلامي العظيم للقرن الرابع عشر من الهجرة، له نمطه المعروف وفكرته الواضحة التي أسهر لها ليله وأضنى بها جسمه، وتعرض في سبيلها لحقد الحاقدين وكيد الكائدين، ثم لبى دعوة ربه معتزاً بما لم يترك سواه من علم وإصلاح

****

وإذا كانت تعاليم الشيخ عبده قد أثرت من نصف قرن مضى في التفكير الإسلامي تأثيراً قوياً فإن المخلصين للأزهر لا يزالون إلى الآن يرجون أن يسرع الأزهر في الاقتراب من هذه التعاليم، وأن يجعلها من أسس دراسته وأساليب تفكيره، ولابد أن يقترب الأزهر – وهو معقل الدين- من طريقة الشيخ عبده مهما طال الأمد، لأنها طريقة السلف الصالح التي فهم بها الدين وعز جانبه، وآخر هذا الدين لا يصلح إلا بما صلح به أوله، أيها السادة: هذه ناحية من نواحي عظمة الشيخ عبده وأحب ألا أغادر موقفي هذا حتى أسجل أن عظمة الشيخ عبده لم تكن ترجع فقط إلى علمه الواسع وإحاطته بأساليب الحياة الصحيحة، ولكنها في الواقع ترجع إلى صفات صّيغ بها وطبع عليها، فقد كان مؤمناً قوي الأيمان، كان مخلصاً لفكرته، كان شجاعاً في الحق لا يعرف التردد ولا المجاملة، كان متجرداً عن الأهواء والمطامع، ليس مشغولاً إلا بفكرته ولا معنياً إلا بنجاح دعوته، كان معتمداً على الله وعلى قوة الحق وعلى الصراحة والوضوح، وما كان يعرف ركناً يأوي إليه سوى هذه الصفات، وكان بكل هذا شخصية مهيبة يحيط بها الوقار، ويحفها الجلال، ويشع منها نور الحق، وروعة الصدق فتجذب إليه الناس فيملك عليهم السمع والبصر والفؤاد، ذلكم هو المصلح وذلكم هو الإمام، رحم الله الإمام وأسبغ عليها رضوانه.

محمود شلتوت.

(1) من ذلك مسألة سر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسألة زيد وزينب، ومسألة الجبر والاختيار.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير