تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهنا يجدر بنا أن نلاحظ كثرة خطاب القرآن للناس بهذه الألفاظ الَّتي تشعرهم بوحدة أصلهم الإنساني: (ياأيُّها الناس .. يابني آدم .. ) فالتشريع القرآني يسمو بالناس إلى أفق ترقى معه كرامة الإنسانية جمعاء، بصرف النظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم فيقول: {ولقد كرَّمْنَا بني آدمَ .. } (17 الإسراء آية 70) وتلك الكرامة تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة، والفكر والعقيدة والتعلُّم والعيش الكريم، ويرقى إلى ذروة السمُوِّ الإنساني حين يجعل أساس الثواب والعقاب للناس مرتكزاً على نواياهم وأعمالهم لا على ظواهرهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم).

وقد كرَّر الله تعالى الأمر بالتَّقوى في أوَّل الآية وفي آخرها، ليشير إلى عظيم حقِّه على عباده، كما قرن تعالى بين التَّقوى وصلة الرحم ليدلَّ على أهمِّية هذه الرابطة الوثيقة؛ فعلى الإنسان أن يرعى رابطة الإيمان بالله، وروابط القرابة وصلة الرحم، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمن، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلَّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» (متفق عليه). وصلة الرحم تنبثق من الأسرة الواحدة، وتمتدُّ لتشمل أفراد المجتمع بكامله، ولا تستقيم أمور الأسرة الَّتي هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، إلا إذا تراحم أفرادها، وتوثَّقت عرى المحبَّة فيما بينهم. ولن تستطيع الأسرة أن تحيا بمعزل عن الآخرين، لأن أعباء الحياة كثيرة، ولابدَّ من التعاون بين الأفراد، ومن باب أولى التعاون بين الأهل، إذ الأقارب للإنسان كالرِّداء الواقي الَّذي يحميه من حرِّ الصيف وقرِّ الشتاء، وهم كالمحارة الَّتي تنغلق على اللؤلؤة لتحميها من عوادي الزمن، فإذا ما تخلَّى الإنسان عن قرابته فكأنما انسلخ عن جلده، أو ترك أعضاءه هملاً مشاعاً تعبث بها الخطوب وصروف الأيام!.

ولا يمكن أن تقوم علاقة وطيدة بين الأفراد وذويهم، إلا على أسس المحبَّة والرحمة، والتسامح والإيثار وبذل الخير، ومدِّ يد المساعدة، ونفي التشاحن والبغضاء والأنانية الَّتي تعمل كالمعول في هدم الروابط الاجتماعية. وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة في قوله: «الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شحنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله تعالى» (أخرجه أبو داود والترمذي).

وتتَّسع دائرة الرحمة لتشمل الناس جميعاً، فالناس كما علمنا إخوة، وما أجدر الإخوة أن يتراحموا، فيعطي الغني الفقير، ويصفح المحسن عن المسيء، ويرحم الكبير الصغير، ويعين القوي الضعيف. بمثل هذه الأخلاق ساد المسلمون الأوائل، وأرسَوْا دعائم حضارة رائعة، أضاءت ظلمات الجهل الَّذي تَمَلَّكَ الإنسانَ ردحاً طويلاً من الزمن. والله تعالى حفيظ مطَّلع على جميع أحوالنا، فلا مفرَّ من الرقابة الإلهية الَّتي ترصد كلَّ حركة وكلَّ سكنة، وتعلم ما أسررنا وما أعلنَّا، فلا يغيب عن علم الله شيء في الأرض ولا في السماء، ولابدَّ أن يجازي من يفرِّط في تعاليم الله، جزاءً شديداً عادلاً، ويكافئ الساجدين له المستسلمين لعظمته المحافظين على تطبيق شرعه.

فالعاقل هو من يقدِّر حساباته بدقَّة ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، وتكون دنياه مزرعة يحصد إنتاجها يوم الحساب، فقد روى أبو يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أَتْبَعَ نفسَهُ هواها وتمنَّى على الله» (رواه الترمذي).

ولا تقف الرحمة الإلهية عند حدود الإنسان بل تتعدَّاه إلى الحيوان، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثمَّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبُ من العطش مثلَ الَّذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفَّه ماءً ثمَّ أمسكه بفيه، حتى رَقِيَ فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كلِّ كبد رطبة أجر» (متفق عليه).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير