وثمة (إما) من غير هذا الباب، وهي التي تكون شرطية كقوله تعالى: "فإما تَريِنَّ من البشر أحداً فقولي إنّي نذرتُ للرحمن صوماً .. الآية –مريم/16". فإما هنا أدغمت فيها نون –إنْ- الشرطية في –ما- الزائدة للتوكيد، فالأصل (إن، ما). و (تَريِنَّ) فعل الشرط، وقد لحقت به نون التوكيد. أما قوله (فقولي) فهو جواب الشرط. وكذلك قوله تعالى: "إمّا يبلغنَّ عندك الكبرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً –الإسراء/23". فأمّا هنا ركَّبت من (إن) الشرطية وقد زيدت عليها (ما) تأكيداً، ولذا صحّ لحوق النون المؤكدة لفعل الشرط الذي هو (يبلغنّ)، وأحدهما فاعل –يبلغن- وجزاء الشرط (فلا تقل).
7 - إن:
الأكثر في (إِن) بكسر الهمزة وسكون النون أن تكون شرطية نحو قولك: (اِن تجتهدْ تنجحْ)، أو نافية نحو قولك: (إن أردت إلاَّ نصحك) أي ما أردت غير نصحك. ولكنها قد تأتي زائدة كقول القائل: (ما إن ندمت على سكوتي مرَّة)، وقد زيدت في هذا المثال بعد (ما) النافية، وكذلك قول الشاعر:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
إذن فلا رفعتْ سوطي إليَّ يدي
والمعنى: ما أتيت بشيء أنت تكرهه.
والكتَّاب إذا أتوا بأن الزائدة هذه بعد ما النافية، فتحوا همزة (إن) فقالوا: (ما أن جاء خالد حتى بدأ يتكلم ... )، ولا وجه له، والصواب (ما إن جاء خالد حتى بدأ يتكلم) بكسر همزة إن.
ولكن هل تزاد (إن) المكسورة الهمزة بعد (ما) إذا لم تكن هذه نافية؟ أقول تزاد (إن) بعد (ما) المصدرية، وشاهده في كتب النحاة قول القريعي:
ورَجِّ الفتى للخير ما إن رأيته
على السنّ خيراً لا يزال يزيد
و (رجِّ) فعل أمر، والفتى مفعول، و (ما) مصدرية زمنية. والمعنى، توقَّع الخير من الفتى ما دمت ترى الخير منه يزيد بتقدّم سنْه.
أما (إن) المفتوحة الهمزة الساكنة النون فقد تزاد ولكن بعد (لمّا) الحينية غالباً كقوله تعالى: "ولما أنْ جاءت رُسُلنا لوطاً سيء بهم .. هود/77".
وزيادة (أن) بالكسر، و (أن) بالفتح لا يعني أن حذفهما وذكرهما سواء، فزيادتهما إنما تفيد التوكيد.
8 - أن المصدرية وحذفها:
أن المصدرية إما أن تذكر فتنصب المضارع في مثل قولك: (لابد أن تعمل لتضمن النجاح).
وإما أن تضمر فتنصب المضارع في مواضع قياسية، أي كون إضمارها مع استمرار نصبها قياساً، وذلك:
بعد لام التعليل كقولك جئت لألهوَ.
وبعد لام الصيرورة كقوله تعالى: "فالتقطه آلُ فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحَزَناً- القصص/8".
وبعد حروف العطف: الواو والفاء وثم و أو، كقولك: يأبى الشجاع الفرار ويسلمَ، ويأبى الشجاع الفرار فيسلمَ، ويأبى الشجاع الفرار ثم يسلمَ، بنصب (يسلم)، فيها جميعاً. وقولك: يطلب الشجاع النصر أو يموتَ، بنصب يموت.
وقد تحذف (أن) المصدرية هذه فتقول (يريد المعلّم يحذر تلاميذه عاقبة الكسل) والأصل (يريد أن يحذّر)، ويسأل الكتاب، أينصب الفعل هنا وقد حذفت قبله (أن) أم يرفع؟ أقول المشهور رفع المضارع كما ذهب إليه البصريون وعلى رأسهم سيبويه، قال الشاعر:
ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي
والمعنى يا من تلومني في حضوري الوغى لأشهد اللذات، هل تكفل لي الخلود إذا كففت عن الحرب؟
وقد روى البصريون (أحضر) بالرفع، وقال سيبويه: أصله –أن أحضر- فلما حذفت- أن- ارتفع الفعل. ورواه الكوفيون بالنصب واحتجوا بعطف (أن أشهد) على (أحضر)، فأحضر منصوب لديهم والناصب مضمر قبلها لضرورة الشعر.
أقول ما دام المعول على ما جاء من ذلك في كلام الفصحاء، فقد ورد رفع المضارع بعد حذف (أن) الناصبة في الاختيار. من ذلك ما جاء في حديث جابر بن سمرة: "فشكوه حتى ذكروا أنه لا يُحسن يُصلي" برفع (يُصلّي). وفي الحديث أيضاً: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر حدُّث على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" برفع (تُحدُّ)، أي لا يحل لها ترك الزينة لحزنها فوق ثلاث. وفي كلام الجاحظ، كما حكاه الثعالبي في كتابه (لطائف اللطف): "أتحسنين تضربين بالعود"، والأصل: أن تضربي.
وعلى ذلك المثل المشهور (تسمعُ بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه) برفع (تسمع)، والأصل: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
وفي التنزيل: "قل أفغيرَ الله تأمرونّي أعبدُ أيها الجاهلون –الزمر/ 64"، برفع (أعبد)، والتقدير أتأمروني بعبادة غير الله؟
¥