تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومهما يكن من أمر فإنه إذا أريد باللفظ ما وضع له أصلاً، في التقدير، فإنه الحقيقة، وإذا جازوا به موضعه الأول هذا في اللغة فأوقعوه موقعاً آخر بسبب يصل ما انتقل منه بما انتقل إليه، فإنه المجاز. فلابد أن يكون ثمة سبب يصل المجاز بالحقيقة. وقد جاء في المزهر (1/ 211): (المجاز كل كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو المعنى). وقال الشريف الجرجاني في تعريفاته: (المجاز ما تعدى محله الموضوع له إلى غيره بمناسبة بينهما، أما من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور، أو من حيث القرب أو المجاورة). ومن ثم كان لابد لكل مجاز من حقيقة. قال صاحب الكليات (50): (الأصل أن يكون لكل مجاز حقيقة).

هذا وليس يبعد أن يعتد المجاز بكثرة استعماله أصلاً فيتفرع عليه مجاز آخر، لكنه لا يخرج عن كونه مجازاً. ولابد هنا من وضوح العلاقة بينه وبين الأصل الأول على كل حال. قال الزمخشري في الأساس: (ومن مجاز المجاز تداعت إبل بني فلان هُزلت أو هلكت)، وأصله الأول (تداعى القوم لمهم) إذا دعا بعضهم بعضاً فاجتمعوا لأمر مهم. وقد بُني على هذا قولهم (تداعت الحيطان للخراب) كأن بعضها دعا بعضاً للسقوط والانهيار. ثم تفرع على هذا قولهم (تداعت عليه الحيطان) إذا تهدمت و (تداعى البنيان) إذا تصدع، وتداعت الإبل إذا هزلت أو هلكت. فليس ينكر، على هذا، أن يتفرع مجاز على مجاز، بتعاقب الحقب والأجيال، وأن يختلف القول بالأصلية والفرعية بتباين وجهات النظر والاعتبار.

* * *

هذا ويكون تدرج المعنى بالنقل، وذلك بأن يغلب على لفظ معناه المجازي حتى يشتهر به ويُعرف بلا قرينة. وهو ما أسماه أصحاب البيان المجاز الراجح، فيدعى كسب اللفظ معناه الجديد هذا نقلاً. ومن ذلك غلبة الألفاظ الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، على ما قُصد بها شرعاً، ومنه شهرة ألفاظ بمعانيها المستحدثة في موضوعات وعلوم وصناعات شتى، كمصطلحات النحو والصرف والوضع والمعاني والبديع والبيان والعروض والحكمة والعقائد والأصول، ومصطلح الحديث والتفسير، وسواها من مواضعات الطبيعة والفلك والعلوم الرياضية .. قال الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر): (الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة. وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم. وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب على فعله ويعاقب على تركه .. )، ثم قال: (واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازاً بالنسبة إلى غيرهم. قال في المفتاح: الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق. والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية ... فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة، وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع، ومتى لم يتعين قلت عرفية. وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه، غير ممتنع في نفس الأمر).

ويدخل في النقل ما وضع لمعنى خاص فاستعمل عاماً. وقد مثل صاحب المزهر لهذا بـ (النجعة) فأصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعاً. و (المنيحة) وأصلها الناقة أو الشاة تعطى الرجل ليشرب لبنها ثم أصبحت كل عطية منيحة. ونقل المزهر (1/ 253) قول ابن فارس في فقه اللغة) كان الأصمعي يقول أصل الورد إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء ورداً). ونظيره (الصَدر) فإن أصله الانصراف عن الماء ثم أصبح كل انصراف صدراً. قال صاحب المفردات (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً –الآية- والصدر في الحقيقة صدر عن الماء). وقال الجوهري في الصحاح (وطريق صادر أي صدر بأهله عن الماء) ثم قال (والصَدر بالتحريك الاسم من قولك صادرت عن الماء وعن البلاد)، وأردف (وفي المثل تركته على مثل ليلة الصدر، يعني حين يصدر الناس من حجهم). فأورده خاصاً ثم عممه.

و (المجلة) وضعت لمعنى خاص فقيل إنها الصحيفة التي تكون فيها الحِكم، كما قال الجرجاني في تعريفاته، لكنها استعملت لكل كتاب. ففي الصحاح (والمجلة الصحيفة فيها الحكمة. قال أبو عبيد: كل كتاب عند العرب مجلة).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير