وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا ما يشاهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار.
وأما المؤمن المجاهدون، فهو كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُون)
فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن حيا حيى حياة طيبة، وإن قتل فما عند الله خيرا للأبرار.
وأيضا فإن الله تعالى قال: (ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا).
وقال في كتابه (ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)
فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه ميت، قال العلماء: وخص الشهيد بذلك، لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فيفر عن الجهاد خوفا من الموت.
وأخبر الله أنه حي يرزق، وهذا الوصف يوجد أضا لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم لكن خص الشهيد بالنهي لئلا ينكل عن الجهاد، لفرار النفوس من الموت، فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتا واعتقاده ميتا، لئلا يكون ذلك منفرا عن الجهاد، فكيف يسمى الشهادة تهلكه واسم الهلاك اعظم تنفيرا من اسم الموت.
فمن قال إن قوله: (ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة) يراد به الشهادة في سبيل الله فقد افترى على الله بهتانا عظيما.
وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان:
أحدهما: أنه يكون هو الطالب للعدو، فهذا الذي ذكرناه.
الثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار،فهذا أولى وأوكد.
ويكون قتال هذا: إما دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد).
وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان القتال يحصل به المقصود، وإما فعلا لما يقدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه.
ومن هذا الباب: الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل ولا يتكلم بالكفر، فإن هذا بمنزلة الذي يقاتله العدو حتى يقتل ولايستأسر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه من قلبه موقن بالإيمان بمنزلة المستأسر للعدو.
فإن كان هو الآمر الناهي ابتداء كان بمنزلة المجاهد ابتداء، فإذا كان الأول أعز الإيمان وأذل الكفر، كان هذا هو الأفضل.
وقد يكون واجبا إذا اقتضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإن الفتنة أشد من القتل.
فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لايحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان مالايحصل بتركه، ترجع القتل واجبا تارة، ومستحبا تارة.
وكثيرا ما يكون ذلك تخويفا به، فيجب الصبر على ذلك.
قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فأخبر أن الكافرين لايزالون يقاتلون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم.
وأخبر أنه من ارتد فمات، مات كافرا خالدا في النار.
ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم
¥