و قد سبقه إلى ذلك الأمير الصنعاني في جزء له سماه (استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال). قال ما ملخصه (ص26):" وقد دلَّت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار، وهو يفيد التحريم. ودل على أن من جَرّ إزاره خيلاء لا يَنْظر الله إليه، وهو دال على التحريم، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هي عدم نظر الله إليه، وهو مما يُبْطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء ".اهـ
و هذا يخالف ما ذكره في (سبل السلام) كما سيأتي قريبًا إن شاء الله، حيث وافق الجمهور بتقييد التحريم بالخيلاء، و هو الصواب لما سنبيّنه إن شاء الله. ولعل رسالة الصنعاني هذه هي التي عناها الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار (1/ 641حيث قال: وقد جمع بعض المتأخرين رسالة طويلة جزم فيها بتحريم الإسبال مطلقاً.اهـ
و مهما يكن، فإن المتأمل في أحكام الإسبال يجد أنّ موردها واحد، إذ أنه لا اختلاف بين التعذيب بالنار و عدم نظر الله، بل هما متلازمان. و قد فسروا عدم النظر بعدم الرحمة، قال في (المستخرج): معنى قوله "لا ينظر إليهم" أي لايرحمهم، والنظر من الله لعباده إنما هو رحمته لهم ورأفته بهم، ومنه قول القائل: انظر إلي ينظر الله إليك أي ارحمني رحمك الله. اهـ
و قال الحافظ العراقي في شرح الترمذي – فيما نقله ابنه أبو زرعة في (طرح التثريب) -: عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر؛ لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. اهـ
و قد جمع هذه المعاني حديث أبي ذر رضي الله عنه:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال:"المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". رواه مسلم برقم (106).
و قد اشتمل على أربعة أحكام كلها متلازمة، و على طريقة الشيخ رحمه الله بالتفريق، فإنه يلزمه أن يكون هذا الحديث بيانًا لحكم ثالث، غير (الجرّ) و غير (ما أسفل الكعبين)، لاختلاف العقوبة فيه ... و هذا بيّن البطلان، لأن من مقته الله لم يرحمه، و من لم يرحمه عذّبه. فالعقوبة بالنار نتيجة للإعراض و عدم التزكية.
هذا، و قد روى حديثَ أبي ذر، الإمامُ النسائي في (الصغرى 4458) بلفظ:" المسبل إزاره "، و هي رواية لمسلم (106)، و في (الكبرى 6050) بلفظ: " المسبل إزاره خيلاء ... " فرجع التقييد بـ (الخيلاء).
و مما يدل على أن العقوبة واحدة؛ حديث هبيب الغفاري رضي الله عنه أنه رأى محمد القرشي قام يجر إزاره فنظر إليه هبيب فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من وطئه خيلاء – أي إزاره كما في رواية - وطئه في النار" رواه أحمد (3/ 437) و أبو يعلى (1542) و الطبراني في (الكبير 544) قال في (مجمع الزوائد 5/ 125): رجال أحمد رجال الصحيح خلا أسلم أبا عمران وهو ثقة.اهـ و صححه الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب و الترهيب) برقم (2040).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في (التخويف من النار 1/ 118): وفي مسند الإمام أحمد عن هبيب بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من وطئ إزاره خيلاء وطئه في النار" وهو يبين معنى ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار "، أن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معا وأنه يسحب ثوبه في النار كما يسحبه في الدنيا خيلاء.اهـ
قلت: فعلى هذا، فإنّ قوله " ما أسفل الكعبين ففي النار" بيانٌ لمحل الحكم الذي سببه مُبَيّنٌ في قوله " لا ينظر الله ... " و المعنى؛ أنه من أسبل ثوبه خيلاء أصابت النارُ ما تحت كعبيه. و إنما لم تصب ما فوقهما لأن ما فوقهما من الثياب مأذون به على كل حال، و إلى هذا يرشد قوله " و لا جناح عليه فيما بينه و بين الكعبين ".
و يظهر هذا المعنى أكثر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، و فيه: " ارفع الإزار فإن ما مست الأرض من الإزار إلى ما أسفل من الكعبين في النار "، رواه أحمد في المسند (5724).
¥