والفرق بين الموقفين لا يقتصر على الشعر القديم وضرائره، بل يمتد إلى الشعر المحدث وعواره. فابن جني يتيح للمحدثين ما أتيح للأقدمين من رُخص، ولا يرى أدنى غضاضة في إتيانها. وابن فارس يريد أن يقمع هذه الظاهرة قمعاً، وأن يجتثها اجتثاثاً. ولو أنه كتب لرأيه البقاء والغلبة لأراح النحو من نصف مشكلاته، وأقاله من أسوأ عثراته، لأنَّ أكثر مسالكه التواء تتعرج في دواوين الشعر، ولأن أوعر طرقه مسالك تطؤها أقدام الشعراء.
والدراسات الحديثة شهدت نقاداً دفعتهم الغيرة على اللغة إلى استنكار الضرورة، فهي عندهم غلط محض، شقّ على الفصحى عصا الطاعة، وخالف قواعدها المطردة. ومن هؤلاء النقاد الأستاذ أحمد عبد الغفور عطا، محقق صحاح الجوهري. ذهب العطار إلى أن الضرورة صورة فجّة من صور التعبير القديمة، انبثقت من غور سحيق، وخالطت الصور الناضجة الراقية. قال: "وغير بعيد عندي أن يكون هذا الخطأ أثراً من آثار رواسب اللغة العربية قبل كمالها وبلوغها مرتبة الصقل والتهذيب، تظهر على الألسنة، ولا يستطيع الناطق لها ردّاً" (29). ولا يشفع لهذه الصور عنده صدورها عن فصاح أقحاح، يُحتجُّ بكلامهم، إذ يقول: "وعلى سبيل المثال أذكر بعض هذه الرواسب التي أعتدها من الخطأ الذي وقع من العرب ممَّن يُحتجُّ بلغتهم هو خطأ عند من يبتغي السهولة واليسر والقاعدة الصحيحة التي لا تلف ولا تدور" (30).
وبعد هذا الحكم الحاسم الجازم يذكر العطار خمسة وعشرين شاهداً من الضرائر الشعرية التي يعدّها تعبيراً عن المخالفة والشذوذ. وسواء أكانت هذه الشواهد من رواسب اللغة العربية قبل كمالها وبلوغها مرتبة الصقل أم مخالفة قاد إليها وزن الشعر فهي غلط عند العطار، كما كانت غلطاً عند ابن فارس.
المصادر والمراجع
1 ـ البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروزبادي ـ تح. محمد المصري، دمشق 1392هـ/ 1972.
2 ـ الخصائص: ابن جني ـ الطبعة المصورة، (بلا تاريخ).
3 ـ الصحاح: الجوهري ـ تح. أحمد عبد الغفور عطار ـ دار الكتاب العربي ـ القاهرة.
4 ـ الصناعتين: أبو هلال العسكري ـ تح. علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم ـ القاهرة.
5 ـ كتاب سيبويه: سيبويه ـ مصورة عن طبعة بولاق، (بلا تاريخ).
6 ـ كتاب سيبويه: سيبويه ـ تح. عبد السلام هارون (طبعة مصورة).
7 ـ مجلّة المخطوطات العربية ـ المجلد 25، الجزآن 1، 2.
8 ـ معجم الأدباء: ياقوت الحموي ـ بيروت ـ دار المستشرق (بلا تاريخ).
* باحث من سورية.
(2) سمى ابن فارس كتابه هذا في (الصاحبي ص 471) باسم خضارة وباسم (نعت الشعر). وذكر هذا الكتاب في مفتاح السعادة 1/ 109 وكشف الظنون 1/ 827 باسم ذم الشعر، وكذلك ذكر في آداب زيدان 1/ 619 والأعلام 1/ 184
(3) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(4) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(5) مجلة المخطوطات العربية مج 25 الجزآن 1ـ 2 ص 31
(6) ترجمة في معجم الأدباء 20/ 50 ـ 52
(7) ترجمة في معجم الأدباء 14/ 14 ـ 35
(8) مجلة المخطوطات العربية، الجزآن 1، 2 ص 33 والنص مقتبس من الوساطة للجرجاني ص 5
(9) ترجمة العسكري في اللغة ص 62
(10) النص في كتاب الصناعتين 150
(11) هو عمرو بن بحر، ترجمته المفصلة في معجم الأدباء 16/ 114 ـ 127
(12) كتاب سيبويه 1/ 26 (هارون) ص 8 (بولاق)
(13) كتاب سيبويه 1/ 13 (هارون) 1/ 13 (بولاق)
(14) ترجمة المبرد في معجم الأدباء 19/ 111 ـ 123
(15) المقتضب للمبرّد 3/ 354
(16) المصدر السابق 3/ 354
(17) ترجمة ابن جني في معجم الأدباء 12/ 81 ـ 115
(18) ترجمة أبي علي الفارسي في معجم الأدباء 7/ 232 ـ 261
(19) الخصائص لابن جنّي 1/ 323
(20) المصدر السابق 1/ 328
(21) المصدر السابق 1 328
(22) مجلة معهد المخطوطات العربية، مج 25 الجزآن 221 ص 45
(23) المصدر السابق.
(24) المصدر السابق.
(25) المصدر السابق.
(26) المصدر السابق.
(27) المصدر السابق، ص50 ..
(28) المصدر السابق، ص51.
(29) الصحاح للجوهري، طبعة دار الكتاب العربي، مقدمة المحقق، ص17.
(30) المصدر السابق، ص17.
منقول من مجلة التراث العربي - العدد 98
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[17 Jul 2007, 08:27 م]ـ
جزاكم الله خيرا
يمكن تحميل الكتاب من هنا:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=106483