تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بعد هذه المقدمة يتحدث ابن فارس عن فريق من الشعراء القدماء، أصابوا في أكثر شعرهم، وجانبوا الصواب في أقلّه، "وجاء النحاة فجبنوا عن اتهام الأقدمين بالخطأ، ونظروا إلى الشعر القديم بعين الإجلال، وجعلوا يوجهون لخطأ الشعراء وجوهاً، ويتمحّلون لذلك تأويلات، حتّى صنعوا فيما ذكرناه أبواباً، وصنفوا في ضرورات الشعر كتباً" (24). ثمَّ يُتبع الشيخ كلامه هذا بنموذجات من ضرائر الحذف وفكّ الإدغام، ويذكر أقوال سيبويه في تخريجها ذكر الساخر المستنكر، لا ذكر المظاهر المعترف.

فإذا فرغ من العرض انتقل إلى المناقشة. فسخر من الحجة التي يلجأ إليها النحاة، واستنكر أشد الاستنكار تسويغ الخطأ، وتسميته ضرورة. وهذه الحجة هي: أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز للخطيب والكاتب، ويجرّد الشعراء من هذا الحق، ويهزأ منهم وممن بايعهم بإمارة الكلام، ويرى أن النحاة أمروا على دولة الفصاحة والبلاغة قوماً غير أكفّاء، فيقول: "وهَبْنا جعلنا الشعراء أمراء الكلام، فلِمَ أجزنا لهؤلاء الأمراء أن يخطئوا، ويقولوا ما لم يقله غيرهم؟ " (25).

من تساؤل أحمد بن فارس يتبيّن لك أن الخطأ نزع منهم الجدارة بالإمارة، ونقلهم من صفوف الملوك إلى صفوف السوقة. أمَّا احتجاجهم بإقامة الوزن فحجّة داحضة، وعذر مضعوف، لأنهم غير مكرهين على قول سليم الوزن عليل الصحة. يقول أحمد بن فارس: "ونحن لم نَرَ، ولم نسمع بشاعر اضطره سلطان أو ذو سطوة بسوط أو سيف إلى أن يقول في شعره ما لا يجوز، ومالا تجيزونه أنتم في كلام غيره" (26).

ولسائل أن يسأل ابن فارس بعد أن استنكر فعل الشعراء والنحاة عن المخرج من هذا المأزق. فما المخرج؟ وكيف نعامل الشعراء؟ عالج الشيخ المشكلة بأسلوب صارم حازم، يريح الشعراء والنحاة من أعباء التأويل والتعليل، وهو أن يحذف الشاعر من قصيدته كل بيت فيه تعبير متعثّر، أو خروج على الأصول. يقول ابن فارس عن الفرزدق بعد أن يزري بهفواته: "ولو أنه أعرض عن هذا الملحون المعيب لكان أحرى به" (27).

يبدو ابن فارس في هذه الرسالة علماً فرداً، يكره التقليد والمصانعة، ويؤثر الصراحة والحفاظ على اللغة. ويبدو كذلك حَكَماً عادلاً، يشوب العدل بالقسوة، يجبه من سبقه ومن عايشه برأي واضح، ويقارع المتسامحين مقارعة لا تعرف المجاملة واللين. وهو في مقارعته يبارز أعتى الخصوم من الشعراء والنحاة. يختار أقوال سيبويه، ويفندها، وضرائر الفرزدق ويزري بها. ولكنه لا يفعل ما يفعل إلا بعد أن يخرج الشعر والنحو من الدرع التي يحتميان بها، وهي الحفاظ على الوزن. إن الوزن في رأي ابن فارس ليس إلا ذريعة، يتذرع بها الضعفاء، ويقبع وراءها الخطأ خزيان ذميماً. فمن أحب أن يطاول قمة الشعر فعليه أن يرقى إليها من مسالكها لا من الشعاب الملتوية.

ولعل أقسى ما في هذه الرسالة أن ابن فارس ينزع من الشعراء سلاحهم، وهو أنهم فوق النحو وقبل النحو، وأنه يسمي الضرائر لحناً صُراحاً، فيقول عن الشعراء: "إنهم يخطئون كما يخطئ الناس" (28). ولم يسبقه إلى هذه الصراحة إلا المبرّد في حديثه عن الضرائر القبيحة. غير أن ابن فارس كان أوضح من المبرد وأصرح، وأقسى على الشعراء وأعتى. فالضرائر كلها قبيحة، والقبح كله خطأ، والخطأ في اللغة والنحو لحن. والشعراء والكتاب سواء أمام القضاء.

ولا يمكن أن نردّ موقف ابن فارس هذا إلى تحامله على الشعر. فقد كان الشيخ يقرض الشعر إلى جانب غيرته على اللغة والنحو، وله في الشعر مقطعات لطيفات. وإنما يمكن أن نرده إلى طبيعة ابن فارس، وإلى ثقافته العربية الخالصة، وإلى تعلقه بلغة القرآن الكريم وانصرافه إلى دراسة اللغة وتصنيف المعجمات.

وهذا الموقف لا يعني أن ابن جني وأبا علي الفارسي كانا أضعف منه غيرة، وأوهى حميّة، إلا أنهما غرقا في المنطق، وبرعا في القياس، وكلفا بتشقيق الحجج وتفريع القواعد. وبقي ابن فارس سادن اللغة الحريص على نقائها وصفائها. ولما كان النحو قياساً يتّبع، وكانت اللغة سماعاً ورواية، فقد مال ابن جني وشيخة أبو علي إلى إخضاع الضرائر للقياس، وإلى تخريجها بما يرضي العقل، ومال ابن فارس إلى صيانة اللغة، وغسلها من الأوضار.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير