تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولئن كانت كتب الشيخ ابن عاشور – رحمه الله – وأبحاثه كثيرة متنوعة فإن أعظمها وأشهرها وأحبها إلى قلبه تفسيره التحرير والتنوير الذي مكث في تأليفه تسعاً وثلاثين سنة؛ حيث بدأ فيه سنة 1341 وانتهى منه عام 1380هـ وختمه بكلمة عظيمة مؤثرة قال فيها: (وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعياً على الرأس, وما أدّى هذا الحق إلا قلم مفسر يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.

وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغال صارفة, ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة, ومنازع بقريحةٍ شاربةٍ طوراً, وطوراً غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نعمه أوفى, ومكاييل فضله عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.

وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.

وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقيّ مدينة تونس, وكَتَبَ محمد الطاهر ابن عاشور) [2].

صداقة ابن عاشور للشيخ محمد الخضر حسين:

لقد انعقدت بين الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ العلامة محمد الخضر حسين -1293 - 1377هـ - صداقة عظيمة تعد مثالاً رائعاً في صدق المودة، ورعاية الحقوق، ورقة الشعور، وحسن التذمم والوفاء، وحرارة الأشواق ونحو ذلك من المعاني الجميلة؛ فلقد كانا قرينين في طلب العلم بجامع الزيتونة، وبينهما من العمر أربع سنوات حيث ولد الخضر عام 1293 هـ، وولد الطاهر عام 1297هـ.

ولقد تعرفا على بعض في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، واستمرت صداقتهما إلى أن فارق الخضر الدنيا عام 1377 هـ ..

وأما الطاهر فعاش إلى عام 1393 هـ حيث عُمِّر سبعاً وتسعين سنة.

ولقد فَرَّق الاستعمار بينهما، حيث حكم على الشيخ الخضر بالإعدام والجلاء، فخرج من تونس عام 1331 هـ وتقلَّب في عدد من البلاد ومات في مصر.

وكان كثيراً ما يكاتب الطاهر، ويرد على كتاباته، ويبعث إليه أشواقه، وتحاياه، وتهانيه إذا ما تقلد منصباً.

وهذه نماذج مختارة مما كان بينهما من مودة ومكاتبات.

1 - قصيدة بعنوان (عواطف الصداقة).

بعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331 بعث إليه صديقه محمد الطاهر بن عاشور وهو كبير القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات التالية:

بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ = فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد

وخلَّفت ما بين الجوانح غصة = لها بين أحشاء الضلوع وقود

وأضحتْ أمانيْ القرب منك ضئيلةً = ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد

أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ = يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ

وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا = وهل بعد هذا البين سوف يعود

ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت = أصابعه بالدر وهو نضيد

إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً = تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ

إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى = ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد

فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا = فحسبك ما قد كان فهو شديدثم كتب تحت هذه الأبيات: (هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على عِلاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها).

ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:

أينعم لي بالٌ وأنت بعيد = وأسلو بطيف والمنام شريد

إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ = لعمري بدمع المقلتين خدود

بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ = وللأمد الأسمى عليَّ عهود [3]

بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ = لديك وللودِّ الصميم قيود

عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا = عليَّ بإقبال وأنت شهيد [4]

فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ = لها بين أحناء الضلوع خلود

لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ = وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد

ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ = درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ

وقمتَ على الآداب تحمي قديمها = مخافةَ أن يطغى عليه جديد

أتذكر إذ كنا نباكر معهداً = حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود [5]

أتذكر إذ كنا قرينين عندما = يحين صدورٌ أو يحين ورود

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير