تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

" ... فإذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة، ويوجب القوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية" (36)، وهناك من لجأ إلى قياس الآية على كلام العرب من قولهم، حدثته من فلان، أي عن فلان، ومثَّل له ابن مالك بنحو: "عدت منه وأتيت منه، وبرئت منه، وشبعت منه، ورويت منه" (37).

ولكن الرازي حاول تفسير دلالة الحرف بحيث وجد لها تخريجاً ناسب ظاهر النص على ما هو عليه، أي بدون استبدال "مِنْ" بِ "عَنْ"، وهذا في اعتقادي حسن، وبذلك جنب نفسه التحريف، وهو يحافظ بذلك على ظاهر النص ولا يتصرف فيه، ولكن حتى الذين تصرفوا قالوا بأن "من" بمعنى "عن" إن خرجوا في الظاهر عن ظاهر النص، إلا أنهم لم يخرجوا عن شائع عبارات العرب، إذ لا سبيل إلى فهم كتاب الله فهما صحيحاً ومعرفة مقاصده معرفة سليمة، إلا بالعودة إلى سننهم في كلامهم، وهي التي استقى منها القرآن ألفاظه، لأن هناك من الكلام ما لا ينجلي إلا بالسماع، وعليه فإن استبدال بعض الحروف ببعض أيضاً من كلامهم، والتأويل على هذا الأساس صحيح هو الآخر.

وإذا سألنا لماذا استعمل القرآن الكريم الحرف بدل الآخر، كان الجواب، هكذا تكلمت العرب أو هكذا أراد الله أو هما معاً، إذ القرآن كلام الله على عادة العرب وعرفهم، وعليه فإن السؤال بالصيغة العقلية لماذا قال كذا ولم يقل هكذا؟ لم يعد ذا معنى، ولا يعني هذا أن التأويل يتميز بالعبثية وعدم الانضباط، بل إن التأويل له قوانين تحكمه، وقد سماها أبو حامد الغزالي: "شروط التأويل" وعلى رأسها معرفة اللغة العربية والنحو على وجه ما تعارف العرب عليه، وطرقهم في التمييز بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه وَمحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ويكتفى من ذلك كله بالقدر الذي يتسنى معه الإحاطة بعناصر النص الديني ... " (38).

وهذه التأويلات احتمالات، وهي تخضع كلها إلى قواعد كلام العرب، ففي قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويُجِرْكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ((39).

وقال ابن هشام الأنصاري "إن من" ههنا زائدة والتقدير: "يغفر لكم ذنوبكم وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة "من" ههنا لابتداء الغاية، فكأن المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب" (40)، وقال الزمخشري: "إنما بعض المغفرة لأن من الذنوب ما لا يغفره الإيمان كذنوب المظالم ونحوها" (41).

وما أطلقه ليس بصحيح، وهو قوله: إن الإيمان لا يغفر المظالم. لأن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه يجبُّ الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إشكال.

وتعتبر ظاهرة الإبدال التي رأيناها في القرآن الكريم ظاهرة مخالفة لمعيارية اللغة، لأن هذه المعايير حددت على أساس نصوص مختارة من الشعر والنثر، وهذا يعني من الوجهة النظرية أنه لا بد من وجود فروق بين النظام اللغوي "المعيار" وظواهر الاستعمال اللغوي، فإذا كان المجاز هو كسر العلاقة العرفية بين اللفظ والمعنى الذي وضع له في الأصل، "فإن ظاهرة إبدال الحروف كسر هو الآخر للعلاقة التي بين الحرف والمعنى الذي وضع له في أصل كلامهم، إلا أن النحاة القدامى أطلقوا على هذه الظاهرة مصطلح "الاتساع" وهو من سنن كلامهم، وبالتالي لا يخرج عن معيارية اللغة، والاتساع ينتج عن تبادل الوظائف النحوية، ويعد ذلك عندهم من الرخص الكلامية، مقابلة للرخصة عند الفقهاء، وقد أعطاه النحاة مصطلح التضمين وهو ما يقابل مصطلح "الاتساع" عند البلاغيين" (42).

فحروف الجر التي يحل بعضها محل بعض قد تغير دلالة التركيب، وقد يبقى المعنى على ما هو عليه في الأصل، والحكم تحدده مقتضيات السياق وقد أطلق المحدثون عليها: "تبادل الوظائف الدلالية" وهذه ظاهرة عامة في الاستخدام العربي وهو نوع من أنواع إبداع اللغة وواحدة من صورها، وهي أيضاً من الوظائف النحوية الناشئة عن اتساع في استخدام الوحدات اللغوية لتؤدي المعاني المختلفة سواء في البلاغة أو في النحو أو في اللغة" (43).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير