تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أَنْ يَصّدَّقُوا ((69)، فإن الاستثناء في هذه الآية يرجع إلى الجملة الأخيرة، لأن تحرير الرقبة حق الله فلا يسقط بإسقاطهم (70)، لأن القرينة شرعية، أما إذا اختلفت الأدلة ولم يوجد ما يرجّح أحد المعنيين، فعندئذ يقع الخلاف والتأويل.

ومن أثر الاختلاف في هذه القاعدة قبول شهادة المحدود بالقذف في قوله تعالى: (وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلاَّ الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ((71)، والإشكالية المطروحة في الآيتين: أنه جاء فيها ثلاث جمل متعاطفة ثم أعقبها استثناء، فإلى أي منها يرجع الاستثناء؟

حكمت الآية الكريمة على القاذف بثلاثة أحكام. الأول: أن يجلد ثمانين جلدة والثاني: أن لا تقبل له شهادة أبداً، والثالث وصفه بالفسق والخروج عن طاعة الله، ثم عقبت الآية الكريمة بعد هذه الأحكام الثلاثة بالاستثناء، واختلف الفقهاء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة، فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة أو أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ والقاعدة الدلالية في النص هي: هل الاستثناء الوارد بعد الجمل المتقاطعة يرجع إلى الكل أو إلى الأخير؟.

وعند الإجابة عن هذا التساؤل تتدخل العملية التأويلية ومن ذلك تأويل الزمخشري: "والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الثلاث بمجموعتين جزاء الشرط كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسّقوهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين" (72).

وإذا كان رجوعه إلى الجميع كما يرى الزمخشري، فإنه يسقط الحد وهو الجلد ثمانين جلدة وهذا باطل بالإجماع، فيتعين أن يرجع إلى الجملة الأخيرة فحسب، وكأن الزمخشري يرى أن التوبة تسقط الحد عن التائب وهذا ما يقتضيه ظاهر كلامه، وما يعارض ظاهر كلامه أن الله تعالى قد حكم بعدم قبول شهادته على التأبيد "ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً" فلفظ "الأبد" "يدل على الدوام والاستمرار حتى لو تاب وأناب، وقبول شهادته يناقض هذه الأبدية التي حكم القرآن بها، والاعتماد هنا على القرينة اللفظية اللغوية أبداً" (73) أما الذين ردوا هذا التأويل، فإنهم قالوا: إن الكفر أعظم جرماً من القذف والكافر إذا تاب تقبل شهادته، فكيف لا تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب؟ وقال الشافعي –رحمه الله -: "عجباً يقبل الله من القاذف توبته وتردون شهادته" (74) ورد صاحب الكشاف هذه القرينة بقوله: "فإن قلت: الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف فلا تقبل شهادته، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام، قلت: المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيها بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله فشدد على القاذف من المسلمين ردعاً وكفاً عن إلحاق الشنار" (75).

وقال الشنقيطي: "إن الاستثناء في الآية الكريمة كان ينبغي أن يرجع إلى الكل ولكن لما كان الجلد ثمانين من أجل حق المقذوف، وكان هذا الحق من حقوق العباد لم يسقط بالتوبة، فيبقى رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من حق الله فيسقطان بالتوبة" (76).

وقد رجح العلامة المودودي هذا الرأي بقوله: " .... إن أسلوب عبارة القرآن يدل دلالة واضحة على أن العفو المذكور في جملة: "إلا الذين تابوا إنما يرجع إلى جملة: "وأولئك هم الفاسقون" لأن جلد القاذف ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته، جاء ذكرهما في العبارة بصيغة الأمر: "فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً" وجاء الحكم عليه بصيغة الخبر: "وأولئك هم الفاسقون فإذا جاء قوله تعالى: "إلا الذين تابوا وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم" بعد هذا الحكم الثالث مقترناً به، فهو يدل بنفسه على أن هذا الاستثناء إنما يرجع إلى الجملة الخبرية الأخيرة ولا يرجع إلى جملتي الأمر الأوليين ... وليست التوبة عبارة عن تلفظ الإنسان بها بل هي عبارة عن شعوره بالندامة واعتزامه على إصلاح نفسه، ورجوعه إلى الخير وكل ذلك لا يعلم حقيقته إلا الله، ولأجل هذا،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير