2 ـ العجز في الإنسان وحاجته إلى قوة جبارة تنقذه من الهلاك وتعينه وقت الشدة ويستغيث بها وقت الضيق فتنجده وتخرجه من المأزق وتقدم له العون عند الحاجة وهذا العجز موجود في كل نفس، ويلمسه الإنسان في نفسه ويسمعه من غيره. سأل رجل الإمام جعفر الصادق (رضي الله عنه) عن الله فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى، قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل انقدح في نفسك وخطر في بالك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم، قال: فذاك هو الله.
هذا الشعور النفسي بوجود المنقذ من الهلاك والمنجي من الهم والغم والحزن والكرب، إما أن يبقى مع الإنسان فيكون مؤمناً وإما أن يتنكر له، ويجحد هذا الفضل، ويعرض عن ربه، فيكون كافراً وملحداً وضالاً، وقد صور القرآن الكريم في آيات كثيرة ومواطن مختلفة هذه النماذج من النفوس منها قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ... ) يونس: 22ـ23.
3 ـ ومن دوافع الفطرة إلى التدين الإحساس بالرهبة أمام هذا الكون العظيم وما يجري فيه مما يحرك أحاسيس الإنسان ويوقظ مداركه ويدفع عقله بالغريزة والفطرة ليبحث عن خالق الكون فيأنس به ويطمئن قلبه عنده، ويهدأ روعه وخوفه، ويأمن جانبه ويعقد أواصر التقرب له، ثم يقدم الطاعة والعبادة لعظمته وهذا هو الدين .. ولقد لفت القرآن الكريم النظر في آيات متعددة إلى هذا الكون وما فيه من أجرام ومشاهد ومخلوقات تستحق الوقوف أمامها، ويقف الإنسان عندها مشدوهاً عاجزاً لا يملك حراكاً ولا عطاء، ومن ذلك قوله تعالى: (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم تؤمنون، وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يتعلمون) الرعد: 2 ـ 4.
والآيات كثيرة في هذا الخصوص ولا يقف الإنسان أمامها عاجزاً فقط، وإنما يصاب بالرهبة والخوف والخمود والحيرة لولا ثقته بالله وإيمانه به.
وقد يقول قائل: إن هذه الرهبة كانت في القديم، فأثارت نفس الإنسان البدائي، فاندفع إلى التدين ليأمن من خوف الطبيعة والكون، واليوم لا نحس بذلك، ولا نلمسه في النفس الإنسانية ..
والجواب على ذلك: ان هذا الإحساس بالرهبة كان ولا يزال وسيبقى، لأنه نتيجة حتمية للعجز الذي يتركب منه الإنسان، بفطرته وملكاته وإمكانياته، ولكن هذه الرهبة تغيرت بواعثها، ففي القديم خاف الإنسان من خسوف القمر وكسوف الشمس، وأصابته الرهبة من الرياح والأعاصير والعواصف، ووقف يرتجف من بعض الحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة، وخشي من القحط والجدب وقلة المطر وجفاف الأنهار ..
أما بواعث الرهبة اليوم فلم تقتصر على ما سبق، وإنما تتحقق في نفوس العلماء الذين وصلوا الليل بالنهار، كل في اختصاصه ثم وصلوا إلى الطريق المسدود، ووقفت الوسائل، وعجز العلم أمام اللغز المحير، وأدرك كل عالم أن وراء ذلك قوة كاملة وإرادة منظمة وعقلاً واعياً، وعظمة مطلقة، مثل تفجير الذرة، مرض السرطان وبقية الأمراض المستعصية، ومعرفة تركيب العين، والسر في انسجام أعضاء الجسم، ولفظ الأعضاء الأجنبية عند نقل الكلية أو القلب ... والصبغيات في تكوين الجنين والخلايا في المخ والدماغ وعصب العين.
ونعود لنسأل هل استطاعت الإنسانية والعلم أن يضعا حداً للزلازل والأعاصير .. وإذا استطاع العلم أن يكشف نظام أحد المخلوقات ويعرف كيفية عمله ويدرك سر تكوينه فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً، ولا يفقد الفكرة قيمتها، لأن هذا الكائن المخلوق يسير على نسق لا يستطيع العلم تغييره ولا تبديله .. وإذا كان بعض العابثين لا يشعرون بهذه الرهبة لأنهم يقنعون أنفسهم بما قدمه العلم من تفسير لبعض الظواهر التي كانت تخيف الناس في السابق .. ويقفون عند هذه التفسيرات الظاهرية ثم يضعون القفل على العقل، ويسدون الطريق أمامه في متابعة الحكمة والغاية والهدف والسر في هذه الظواهر، والدقة في حدوثها والمحرك لها ..
4 ـ ومن الدوافع الفطرية للتدين .. الموت الذي يردع الأحياء ويهزهم إلى الأعماق وينبه فيهم القوى المعطلة والأجهزة المتجمدة والإحساس المخدر ويزيل من أمامهم الحجب ويكشف لهم الطريق ويذهب الغبش عن العين فيصحو الإنسان على نفسه ويتفكر بحياته ويبحث عن الهدف من الحياة ويستطلع ما بعد الموت ويدرك تماماً قيمة الحياة الآخرة وتفاهة الدنيا وأنها متاع قليل وأن الكمال الحقيقي الذي يتفق مع تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات أن تكون نفسه وروحه باقية بعد الموت وأن لها حياة أخرى بعد هذه الحياة يلتقي فيها الأحبة والخلان وفيها يحاسب كل إنسان على عمله فتتحقق العدالة المطلقة ويلقى كل إنسان جزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. يقول الإمام علي كرم الله وجهه: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ونقش سيدنا عمر رضي الله عنه على خاتمه (كفى بالموت واعظاً لك يا عمر).
ونلمس هذه الأحاديث يومياً في الحياة من الملحدين والفاسقين والغافلين والمقصرين والعابثين فإذا فاجأهم الموت بعزيز أو قريب أو حبيب نطقوا بالحق وصحوا من النوم والغفلة وصرحوا بالإيمان ولبوا نداء الفطرة وبحثوا عن التدين وأسرعوا إلى الطاعة والعبادة وأنابوا إلى بارئهم ومن يستمر ومنهم من ينكص على عقبيه.
¥