إخلاص العمل لله أن يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمة يسمعها ويقولها ويكتبها ويفهمها، فتكون أشجانه وأحزانه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تُخط به في صحيفة عمله الحسنات، ويُستوجب له بها عند الله رفعة الدرجات، يغدو إلى مجالس العلم فينظر الله في قلبه وهو جالس مع العلماء، ومذاكرة طلاب العلم، وهو لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، فلا يزال يحبه الله ويكرمه ويرفعه ويعظم أجره ويحسن العاقبة له في العلم.
فمن كمل إخلاصه لله، فإن الله يوفقه ويسدده ويرحمه، ويجعل عمله نفعاً له في دينه ودنياه وآخرته.
لقد كان ([32]) السلف الصالح يحملون همّ الإخلاص، حتى كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا حدث بحديث الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار ([33]) يغشى عليه، وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يقول: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيّتي أنها تتقلب عليَّ) ([34]).
وكان بعضهم إذا قيل له حدثنا، قال: لا .. حتى تأتي النية.
فأول ما يطلب الإنسان العلم يأتيه الزهو والغرور وحبّ المناظرة والمناقشة والبروز على الأقران وحظوظ الدنيا؛ لأنه حين رأيته يحمل كتابه بدأت تجله وتحترمه وتكبره وتخاطبه بالخطاب الذي يدل على إجلاله بعد أن كان من عوام الناس، فيعجب بذلك، فيهلك والعياذ بالله.
وإذا أراد الله بالعبد خيراً في بداية الطلب، كسر قلبه لخشيته، وبدأت تظهر أمارات الإخلاص على عمله وحركاته وسكناته، ويكون أشد ما يكون حرصاً على إخفاء عمله.
قال بعض السلف: وددتُ أن عبادتي بيني وبين الله، لا تراه عين.
الإخلاص لوجه الله أن تستحي من الله عز وجل، إذ علَّمَك وفَهَّمك وأجلسك مجالس الرحمة أن ترجو غيره، أو تلتمس رضوان أحد سواه، فاجعل تعلّمك خالصاً لله، ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب.
ومن أمارات هذا الإخلاص ودلائله وعلاماته المشهورة أن تجد نفسك زاهداً في الدنيا، كثير الطمع في الآخرة، فلا تبحث عن سمعة، ولا تبحث عن رياء، ولا تلتمس رضوان أحد غير الله جل جلاله، تصبر وتكافح وتجاهد في طلب العلم، لا تنثني لك عزيمة، ولا تنكسر لك شوكة، ولا تصرف وجهك عن الوجهة التي علمت فيها رضوان الله العظيم حتى تبلغ غايتك التي تريدها وتنشدها، وهذا هو النَّهَمُ الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) ([35])، فطالب العلم المخلص لوجه الله لا يضعف، ولا يكلّ، ولا يسأم من طلب العلم؛ لأنه يعلم ما وراء هذا التعب والنصب من رضوان الله العظيم، ويعلم أن في نصبه وكدحه محبة الله والدرجات العلى عند الله سبحانه وتعالى.
انتبه لنيتك، وتفقد سريرتك: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11].
وأبشر بالتوفيق إذا وطنت نفسك على الإخلاص: ((إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ)) [الأنفال:70].
المَعْلَمْ الثالث: الإقبال على العلم بكليته:
أن نفتح لهذا العلم أسماعنا وقلوبنا، وأن نحس أن هذه الآذان تتشرف وتُكرم بسماع كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أن ينطلق طالب العلم وقلبه يشتعل شوقاً لمجالس العلم، فينفتح قلبه وقالبه لماء الوحي، حتى إذا نزل ذلك الماء على القلب، كان كالغيث الطيب في الأرض الطيبة، وما من طالب علم يقبل بكليته على العلم بهذه الكيفية إلا نفعه الله به، ولذلك كانت أول وصية من الله عز وجل لنبي الله موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: ((وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)) [طه:13].
من الإقبال بالكلية على العلم أن ننطلق إلى رياض الجنة ننافس إخواننا، ونسابق فيها خلاننا ([36])، فلا يسأم وهو في مجلس العلم، ولا يملّ ولا يفتر .. ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)) [المزمل:5]، فالعلم ثقيل، ويحتاج إلى عزيمة وقوة وصبر وجَلَد وجمع البال له، ولذلك قال نبي الله موسى بن عمران –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)) [طه:25 - 26]، فالأمر جد عظيم .. والتناوم والتكاسل والخمول لا يليق بطالب العلم .. والمحروم من حُرِم.
¥