وهذا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه حين قدم المدينة مهاجراً، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لم ينتظر ولم يهدأ له بال، حتى لحق به صلى الله عليه وسلم بخيبر، إنها همة هذا الصحابي الجليل التي كانت ثمرتها أن أصبح بعد سنوات وعاء مليء علماً وحكمة، ومن المكثرين من رواية سنن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح اسمه يذكر اليوم كثيراً على المنابر وفي مجامع الناس، وكفى بهذا الذكر شرفاً، ناهيك عن الدعوات وعن أجر كل سنة يعمل بها من بعده وما أعدّه الله له من الكرامة ([40]).
(أذكر ذات يوم من الأيام أنني اشتكيت إلى الوالد رحمه الله من المشقة في طلب العلم، وكانت دروسه متواصلة أثناء اليوم، بعد الفجر تفسير للقرآن، وبعد الظهر صحيح البخاري، وبعد العصر درس الفقه، وبعد المغرب السنن، وبعد العشاء في صحيح مسلم، خمسة دروس بالإضافة إلى دروس الجامعة، فلما وجدت بعض التعب والمشقة، وأحببت أن أقتصر على البعض، شكوت إليه رحمه الله، فقال: يا بني! والله لقد كنت أوقد الفتيل لأبحث عن مسألة من مسائل الفقه، فيخنقني الدخان فأطفئه ثم أوقده ثم أطفئه، ولا أنتهي من المسألة إلا قرابة منتصف الليل، وأنتم في الكهرباء والنعمة، يقول: والله يا بني .. لقد كان يمرّ عليَّ بعض الآلام والأسقام أسلو عنها بالعلم الذي أتعلّمه).
ومما ذكر –رحمة الله عليه- يقول: (كانت أذني تؤلمني حتى أجد من الجهد والألم ما الله به عليم، فأضع الفتيلة في أذني لكيه من أجل يسكن الألم، وكتابي في حجري لا أتحول عنه).
العلم يريد جهد وتعب وتضحية وبذل.
طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله ابتلاء، وفيها اختبار، وفيها امتحان، ولا بد لطالب العلم أن يجد الشدائد، وأن يجد المحن، وأن يجد من يثبطه ومن يخذله، فأول شيء يوصى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان، فإن الشيطان لم يدع لطالب العلم باب خير يطرقه إلا وجاءه منه حتى لا يبلغه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يخلي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلى، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمن العامي.
فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذله، يقول له: من أنت حتى تطلب العلم فلست بعالم، ولا أباك عالم، ولست من بيت علم، حتى يخذله عدوّ الله، ويجد أمامه من حاجات الناس والأهل وأغراضهم ما يمتحن به، ويجعل في قلبه اليأس من رحمة الله والقنوط من روح الله.
فمن فهّم نبي الله سليمان، ومن علّم نبي الله داود –عليهما الصلاة والسلام- قادر على أن يفهمك ويعلمك، وكم من طلاب علم كانوا على جاهلية، وبُعْدٍ من الله تبارك وتعالى، ولكنهم أحسنوا الظن بالله، فما مضت الأيام، ولا انقضت الأعوام، إلا وهم أئمة هدى ومشاعل خير، فأحسن الظن بالله جل جلاله وكن قوي العزيمة على طلب العلم.
فاصبر على طلب العلم، واحتسب البلاء الذي تجده، واحتسب عند الله ما يقال عليك أو يقال لك، فكما أن الإنسان قد يبتلى بالسب والشتم والأذى في عرضه، فقد يبتلى حتى بمدح الناس وثنائهم عليه، فإن الجاه والسمعة والشهرة قد تذهب حسناتك، بل قد تقتل الإنسان من حيث لا يدري، فما على الإنسان إلا أن يجاهد ويحتسب عند الله عز وجل أن يثّبته وأن يوفقه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم أئمة هدى، هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
المَعْلَمْ الخامس: حفظ الوقت واغتنامه:
فإضاعة الوقت من أعظم المصائب على طالب العلم، أعز شيء يملكه طالب العلم: الوقت، والذي يريد العلم يحفظ وقته.
وكان الوالد رحمه الله إذا ذكر عنده أحد –يعني من طلاب العلم- يقول: نِعْمَ طالب العلم؛ لأنه يراه حريصاً على وقته، وإذا رآه طالب علم كثير الزيارة للناس، كثير الاشتغال بفضول الدنيا، لا يعدّه طالب علم بحق؛ لأن مفتاح طلب العلم الحفاظ على الوقت.
أذكر أنه رحمه الله كان بمجرد ما يدخل البيت يستفتح –إن كان الوقت وقت صلاة- فيصلي ما كُتب له، لا أذكر أنه دخل وجلس على فراشه في حياتي كلها معه، فيدخل ثم ينقلب على كتبه، ويقرأ فيها ما شاء الله له أن يقرأ، حتى إنه في بعض الأحيان يستمرّ إلى قرابة منتصف الليل.
¥