وما يلاحظ أن هذه الطريقة تربك القارئ، فتنسيه الحادث الأصلي، إذ تشكل عقبة أمامية أمام الوحدة الموضوعية للحادثة التاريخية، وربما كان الأفضل عرض كل رواية عرضاً متكاملاً من أولها إلى آخرها، الواحدة تلو الأخرى، وبهذا العرض الكامل تتكون لدى القارئ فكرة واضحة عن الموضوع وعن الأوجه المختلفة فيه، فيستطيع أن يوازن بين جميع الآراء، ويرجع بعضها على بعض، فتتكون بذلك لديه نظرة إيجابية عن الموضوع.
وقد راعى الإمام الطبري في ترتيب تاريخه سلسل الحوادث، فرتبها على
حسب وقوعها عاماً بعد عام منذ الهجرة إلى نهاية عام 202 هـ (914 م). فذكر
في كل سنة ما وقع فيها من الأحداث التي رأى أنها تستحق الذكر.
ويختلف حجم الحوليات لديه حسب كثرة وقوع الحوادث فيها أو قلتها وأهميتها
وبلوغ أخبارها إليه، فيطيل ويقصر وفق ذلك،
فبعض الحوليات لا تعدو أسطراً (سنة25)،
وبعضها صفحة أو صفحتان (سنة 29، 48، 0 7)،
والبعض الآخريزيد طوله على مائة صفحة (سنة35، 36)،
وإذا كانت - الحادثة طويلة فيجزئهاحسب السنين التي تستغرقها.
أما طريقته في سرد أحداث كل حولية فليست على نسق واحد، فتارة يذكر
الحادث التاريخي ثم يبدأ في ذكر تفصيله والروايات فيه (4/ 442)، وتارة يذكر
جملة الأحداث التي كانت هذه الحولية ثم يعود إلى تفصيل بعضها (4/ 317)،
وتارة ثالثة تقتصر الحولية على جملة من الأحداث في بضعة أسطر (4/ 250)،
وفي ختام الحولية يذكر بعض من توفي في تلك السنة من المشهورين، لكن هذا
ليس مضطرداً،
أما الذي لا يكاد يتركه غالباً في ختام كل حولية فذكر أسماء عمال
الأقاليم أو أمراء الحج أو هما معاً في تلك السنة، وفي الحوليات التي أعقبت حركة
الفتوح يحرص على ذكر أخبار المرابطين على الثغور للجهاد، كما يسمي
الصوائف والشواتي، والحصون والمدن التي استولى عليها المسلمون.
وبالنسبة للأخبار التي لا ترتبط بزمن معين كالسير مثلاً، فقد كان يختم بها
الحديث عن كل خليفة عند وفاته، فبعد أن يذكر الأحداث في عهده مرتبة على
السنين يختمها باستعراض سيرته دون التقيد بعامل الزمن.
وما يذكر أن الإمام الطبري لم يتقيد بطريقة الحوليات في كل كتابه، وإنما
اتبعها في الحوادث الخاصة بتاريخ الإسلام.
أما في القسم الرابع - أي منذ الخليقة إلى الهجرة - فقد اتبع منهجاً آخراً في
عرض الحوادث فلم يرتبها على حسب وقوعها عاماً بعد عام، إذ كان ذلك متعذراً،
ولكن سار على النهج الذي سلكه أكثر المؤرخين القدماء بالبدء بالخليقة ثم بالأنبياء
ثم التعرض للحوادث التي وقعت في أيامهم، وذكر الملوك الذين كانوا يعاصرونهم
وأخبارهم، وكذلك الأمم المعاصرة لهم والتي جاءت بعدهم إلى ظهور الإسلام وبعثه
المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
ويكثر الإمام الطبري في تاريخه من تسجيل النصوص التاريخية من رسائل
وخطب ومحاورات ولا سيما الشعر رغبة في توثيق الحوادث أو التشويق إليها.
كما أنه حاول ضبط النصوص التي يرويها دون تبديل أو تغيير إلى درجة أنه كثيراً
ما تبقى الكلمات والألفاظ غير العربية كما هي (2/ 51، 54، 62).
أما منهجه في إثبات المصادر
فإنه إذا ما نقل من كتاب ما فإنه قلما يذكر
عنوانيهن، وإنما يذكر اسم مؤلفه كقوله مثلاً: (قال الواقدي) أو (قال أبو مخنف .. ) وإذا سمع من أحد مشافهة قال: (حدثني فلان .. ) فإذا اشترك مع راوي محدثه في السماع آخر أو آخرون قال: (حدثني فلان قال .. حدثنا فلان وفلان .. ثم سلسل السند إلى مصدره الأصلي).
وكان يعتمد أحياناً على المراسلات فيقول: كتب إلي السري عن شعيب عن
سيف (4/ 262) وقد حرص في الغالب على السند المتصل إلا في بعض المواقع
كقوله: (وقد قيل) أو (ذكر عن فلان) (5/ 172).
وكان يضع العناوين لأحداثه وخاصة المهمة منها في بداية كلامه عن بدء كل
سنة تحت عنوان عام مثل قوله: (ثم دخلت خمس وثلاثين، ذكر الخبر عما كان
فيها من الأحداث المشهورة) أو (ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها) أما
الأحداث الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة أسطر، فإنه يذكرها متعاقبة تحت عنوان:
ثم دخلت سنة كذا، وذكر الأحداث التي كانت فيها.
أما فيما يتعلق بعدالة الرواة فإذا كان الإمام الطبري لا يتقد بالقيود التي
¥