تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تمسك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضعفاء، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي

وابنه هشام والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضعفاء المتهمين

بالكذب والوضع في الحديث، فإن ذلك يرجع إلى اتباعه منهجاً معلوماً عند علماء

الحديث وغيرهم حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده، فالصحيح يؤخذ وغير

الصحيح يعرف ويرد وفق ضوابط الشرع وقواعد الرواية ..

وهكذا لم يكن الإمام الطبري بذلك العمل مغفلاً أو جاهلاً عندما يورد مئات

الروايات عن الضعفاء والمتروكين، لكنه يتبع منهجاً مرسوماً عند علماء الجرح

والتعديل لا يلزم من إيراد أخبار المتروكين والضعفاء وتدوينها في كتاب من الكتب

للاحتجاج بها كقولهم: (يروى حديثه ولا يحتج به) و (يذكر حديثه للاعتبار)، (يكتب حديثه للمعرفة)، (ولا يجوز الرواية عنه إلا للخواص عند الاعتبار) [2].

وفي هذا الصدد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني بأن الحفاظ

الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم

الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عهدته، وأسندوا

أمره إلى النظر في إسناده. [3]

ولكون الإمام الطبري من علماء الحديث فقد سار على هذا النهج في تاريخه،

فهو ليس صاحب الأخبار التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته

بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية،

ففيها الصحيح والضعيف الموضوع، تبعاً لصدق الرواة أو كذبهم ومنزلتهم من

الأمانة والعدالة والتثيبت، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه.

وبناء على ذلك لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على تاريخ الإمام

الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها، لأن من أسند

فقد برىء من العهدة.

ومما يلاحظ أيضاً أن الطبري لم يرد الاقتصار على المصادر الموثوقة، بل

أراد أن يطلع قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ من مصادر أخرى قد لا يثق

هو بأكثرها إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية؛ فقد تكمل بعض ما فيها من

نقص، أو تقوى الخبر باشتراكها مع المصادر الصحيحة في أصل الحادثة.

إن مثل الإمام الطبري ومن على شاكلته من العلماء الثقات الأثبات في إيرادهم

الأخبار الضعيفة كمثل رجال القضاء إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية، فإنهم يجمعون

كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها مع علمهم بتفاهة بعضها أو

ضعفه اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره.

ولهذا فقد كان لا يفرط في خبر مهما علم من ضعف ناقله خشية أن يفوته

بإهماله شيء من العلم أو الفائدة ولو من بعض النواحي، إلا أنه يسند كل خبر إلى

رواية ليقف القارئ على قوة الخبر أو ضعفه من كون رواته ثقاة أو مجروحين،

وبذلك يرى أنه أدى ما عليه، خصوصاً وقد وضع بين أيدي القارئ كل ما وصل

إلى يده من نصوص وطرق مختلفة للخبر. ومن فوائد إيراد الخبر الواحد من طرق

شتى وإن كانت ضعيفة ما قاله ابن تيمية:

(إن تعدد الطرق مع عدم الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول - أي بالقدر المشترك في أصل الخبر - لكن هذا لا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين - أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم - وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيء الحفظ .. ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذا ويقولون أنه يصلح للشواهد والاعتبار، وما لا يصلح لغيره، وقال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره) [4].

وتحسن الإشارة إلى أن اتساع صدور أئمة السنة من أمثال الإمام الطبري

لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم دليل على فهمهم وأمانتهم ورغبتهم في

تمكين قرائهم من أن يطلعوا على كل ما في الأمر، واثقين من أن القارئ اللبيب

المطلع لا يفوته بأن العلم مثل أبي مخنف وابن الكلبي وغيرهم هم موضع تهمة فيما

يتصل بالقضايا التي يتعصبون لها، مما ينبغي معه التحري والتثبت لاستخلاص

الحقائق المختلطة بالإشاعات والمفتريات.

أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم أو لجهلهم بمنهج الإمام الطبري ولا

يتعرفون إلى رواتها ويكتفون بالإشارة في الحاشية إلى أن الطبري روى في صفحة

كذا من جزء كذا .. ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء قد يظلمون الإمام

الطبري بذلك ويسيؤون إليه، وهو لا ذنب له بعد أن بين لقرائه مصادره، وعليهم

معرفة نزعات وأحوال أصحاب هذه المصادر ليعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على

أقدار أصحابها.

وهذا المنهج لا يمكن استعماله إلا عن طريق الإلمام بعلم الجرح والتعديل الذي

يهتم بفحص أحوال الرواة ويبين شروط الانتفاع بأخبارهم، كما ينبغي أيضاً مراعاة

المقاييس التي وضعها العلماء في نقد متون الأخبار، وخصوصاً وضع الملامح

العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته في الحسبان، ويعتبر ذلك كله من لوازم الاشتغال

بالتاريخ الإسلامي [5].


(1) تاريخ الطبري 1/ 7 - 8.
(2) الذهبي في الميزان 3/ 173.
(3) لسان الميزان 3/ 75.
(4) الفتاوى 13/ 253.
(5) ولهذا فإن تدريس مصطلح الحديث كمادة أساسية في أقسام التاريخ في جامعاتنا يعتبر أمراً ملحاً.

د. محمد آمحزون

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير