و قد أصابت الدهشة آنذاك الدكتور عائض و ظن أن المصري يمزح، ذلك لأنه مما لم تعرفه الأخلاق الثقافية أبدا، مثل هذه الصفقات التي لا يشتهر بها سوى السماسرة و (مقدمو الخدمات السياحية) في بعض الدول العربية خاصة إذا كان محل الابتزاز أو الزبون خليجيا.
و لعل الكاتب المصري أدرك بعد ذلك أن حجته واهية، و أن هدفه انكشف أمام الشيخ، فطوى الملف، إلى أن جاءت الفرصة التي يسدي فيه مبتزو النخب السياسية خدمات لبعضهم حتى مع تنائي بلدانهم.
و من الناحية العلمية، فإنه حتى لو أن الدكتور عائض استلهم عنوانه من عنوان هذا الكاتب فإن الأمر لا يعدّ سرقة أدبية، وهذا معروف عند أهل الصنعة، لدرجة أن هناك عناوين كتب أو أعمال قد تتطابق دون أن يسمي النقاد ذلك سرقة.
بل أبعد من ذلك فإن استلهام الفكرة في حد ذاتها لا يعد سرقة، لذلك تجد مثلا أن فكرة اليوتوبيا، أو (الجمهورية الفاضلة) قد كتب فيها كثيرون غير أفلاطون و من رجع إلى الكتاب الذي صدر في سلسلة المعرفة الكويتية حول هذا يدرك أن هذه الفكرة استكتبت كثيرين.
كما أن كثيرين كتبوا حول العولمة و الحداثة و ما بعد الحداثة، و حول المفهوم الغيبي للطبيعة مثلما فعل (إدغار كينيه و بيير سيمون بالاش و موريس دي غيران و غيرهم و لم يقل أحد أن هذا سرق من هذا، و لا طلب منه فلسا واحدا مقابل بيعه لحقه، و لا همس بالأمر لجماعته في بلد آخر لتقطف به ثمارا سياسية.
و ترجع بداية إطلاق (صراع الحضارات) إلى صموئيل هنتنغتون و قد كتب فيها كثيرون غيره، و لم يقل أحد أن هذا معيب، و لا طلب هنتنغتون من الواحد من هؤلاء (جنيها) واحدا.
و حتى المواضيع التي لا يمكن أن تخطر ببالين في وقت واحد، فإن صدورها عن شخصين في وقت واحد لا يعني سرقة، ففي عام واحد و هو 1989م ظهر كتاب توني بلير (الطريق الثالث، سياسات جديدة للقرن الجديد)، كما ظهر كتاب (الطريق الثالث تحديد الديمقراطية الاشتراكية) ... و لم يقل أحد أن أنتوني جيدنجز و توني بلير سرق أحدهما فكرة الآخر، و استلهم بيل كلنتو فكرة (الطريق الثالث) و عقد ندوات حولها في الولايات المتحدة الأمريكية، و لم يقل أحد أن هذا سرق من الآخر، رغم أن الموضوع يعد ابتكارا، في الوقت الذي يعد فيه موضوع (الشعر الذي يقتل أصحابه) قديما و لا يرجع إلى ابتكار في موضوعه و فكرته بما يحفظ لمكتشفه الأول حق الفكرة، و للمرء مقارنة هذا بفكرة الأدب الجاهلي التي اتهم فيها طه حسين بالسرقة، كونها فكرة منضبطة مبتكرة لا مشاعا.
و لأن الحقيقة تتطلب العرض ليعرفها الناس، بعيدا عن تحويلها إلى رسائل و إشارات ملغمة ترسلها هذه الجهة أو تلك فإننا ندعو القراء إلى المقارنة بين كتاب الدكتور عائض، و كتاب غيره في الموضوع.
ثم لماذا نذهب بعيدا و الأدباء أنفسهم يرون أن الشيخ عائض اعتمد في كتابه على ذاكرته و حفظه، و قد قالت جريدة الوط نفسها: (أخذ "الألمعي" على معدّ الكتاب عدم دقّته في نقل بعض الأبيات التي أرجعها إلى ذاكرة القرني التي تعتمد على الحفظ في مواقف كثيرة. فيما أشار "ناصر جبلي" إلى أهميّة العودة إلى المصادر والمراجع قبل الحكم على ثبوت صحّة ما يقال في بيت من عدمها، وأشار إلى أنّ منهجيّة الفوضى في الأدب عمل مقبول) .. و إن دل هذا فإنما يدل على إيمان هؤلاء أن كتاب الدكتور عائض لم يؤخذ عن غيره مما يعد سرقة، و لما كان مجرد جمع من محاضرة، و هو الشيء الذي يقصم ظهور الذين يريدون استعمال هذه القضية في مآرب معينة.
إن الذي يسميه هؤلاء كتابا ليس في الحقيقة سوى محاضرة ألقاها الدكتور عائض ثم تم جمعها و طبعها كما هي العادة في الكثير من كتبه، و المقارن بينها و بين كتاب المصري لا يجد ما يمكن أن ينبئ من قريب أو بعيد عن أن الدكتور عائض اتخذ كتاب المصري مرجعا له.
أما أن استلهمَ منك فكرة و ألتقي معك في الاستدلالات الأدبية فهذا لا يدل على سرقة، فإذا كتب كاتبان حول وصف الجواد في الشعر العربي، فإن أحدهما و قد كتب في جيزان سيذكر ما ذكره الذي يكتب في الصعيد من أبيات، و منها:
له أيطلا ظبي و ساقا نعامة و إرخاء سرحان و تقريب تتفل
أو قول القائل:
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل.
¥