أ – لم يكن التفويض المطلق ولا التأويل للصفات عن ظاهرها في يوم من الأيام مذهبًا لأهل السنة والسلف الصالح، لأن مذهب السلف وأهل السنة هو الإيمان بما دلت عليه صفات الله تعالى من معنى الكمال، مع تفويض كيفيتها لله تعالى؛ كما نَقلْتَه عن الإمام مالك وغيرهما في مطلع كلامك.
وإنما التفويض والتأويل مذهبان للخلف، وهم ليسوا في هذا الباب من أهل السنة والجماعة؛ لمخالفتهم لمذهبهم فيه، والمخالف لا يُنسَب إلى من خالفه، وإن كانوا من أهل السنة في بقية الأبواب التي وافقوا فيها أهل السنة.
ب – تأويل الصفات عن معناها الحقيقي لا يجوز في أي عصر من العصور، ولا يجوز أن نرد على أهل الباطل بباطل، بل يجب أن نَثبُت على الحق، ولا نلتفت إلى شغب المخالفين، ولا نتنازل عما معنا من الحق لأجل الرد عليه.
والتأويل باطلٌ؛ مهما صلحت نية فاعله، حسن مقصده وقد يعمل الشخص بعمل أهل النار وهو يظن أنه يحسن صنعًا؛ كما قال تعالى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}.
والباطل إنما يُدفَع بالحق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
12 – يكرر أن مذهب السلف هو التفويض، ومذهب الخلف هو التأويل، ويقول:
" إنما كان المحقِّقون منهم (يعني: أصحاب المذهبين) يفضلون مذهب السلف، فيقولون: هو أسلم، والبعض منهم كان يرجِّح مذهب الخلف؛ دفاعًا لشبهات الزائغين، ويقول: هو أحكم، مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم؛ خلافًا للمعتزلة والجهمية، فكان الخلاف بين الفاضل والأفضل ".
والجواب أن نقول:
أ – قد بينَّا فيما سبق مرارًا أن مذهب السلف في الصفات هو اعتقاد ما دلت عليه النصوص؛ من غير تشبيه ولا تعطيل، وليس هو التفويض، فنسبته إليهم زور وبهتان، وهم منه براء، فكل من التفويض والتأويل من مذاهب الخلف المحدَثة، وليس فيهما مفضولًا ولا فاضل، بل كلاهما زور وباطل.
ب – قوله " مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم " قول فيه مغالطة، إذ كيف يقال: إن من يؤِّول صفات الله عن مدلولها، فيؤِّول اليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء والرحمة بالنعمة، كيف يقال مع هذا: إنه يعتقد هذه الصفات دون تعطيل، أليس فعله هذا هو التعطيل بعينه؟!
13 - قال " وإذا كان من أوَّل الصفات ضالًا، فنضلل السلف الصالح جميعًا؛ لأنهم أولوا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}؛ قالوا: معهم بعلمه لا بذاته، وأولوا قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}؛ قالوا: مَعيَّه علم؛ لئلا تتعدد الذات، وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}؛ قال: المراد: ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. انتهى كلامه.
- والجواب عن ذلك؛ نقول:
أ – نعم؛ من أوَّل الصفات عن مدلوها إلى غير معانيها، فهو ضال؛ كما قال تعالى: {ولله الأسماءُ الحسنى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
ومن الإلحاد فيها صرفها عما دلت عليه، وهذا ضلال.
ب – وأما ما ذكرته من تفسير أهل السنة والجماعة لآيات المعيَّة بأنها معيَّة علم وإحاطة؛ فليس هو من التأويل الذي زعمته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في (الفتوى الحموية):
¥