تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم أسند عن الإمام علي بن المديني أنه قال: «ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة».

وهذا بالضرورة، يستدعي عدم المسارعة إلى رد نقد النقاد، لمجرد عدم العلم بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجهد في الوقوف على ما عليه اعتمد النقاد في نقدهم، فإن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمجازفة، ولا بالحدس.

وما أروع ما ذكره ابن أبي حاتم، عن ابن أبي الثلج، أنهم كانوا يسألون ابن معين عن حديثٍ سنتين أو ثلاثة، فيقول ابن معين «هو باطل» ولا يدفعه بشيء، حتى وقفوا بعد ذلك على علته.

ومن هنا، ندرك خطر الاغترار بظواهر الأسانيد، والاكتفاء بالظاهر من حال رواتها في الحكم على الأحاديث، وهذا هو الضابط الثاني.

التتبع والسبر:

فإن الباحث كلما أكثر من تتبع الأسانيد في الجوامع والمسانيد والأجزاء الحديثية، كلما كان بحثه أخصب وأنضج، وحكمه أقرب ما يكون من الصواب.

فربما كان إسناد فيه ضعف، فمن قنع به، ولم يستوعب البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد أخر صحيح، أو يشهد للأول ويدل على حفظ الراوي له.

ولربما كان إسناد ظاهره الصحة، فمن قنع به، واكتفى به، ولم يستوعب البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد آخر يُعلُّ ذاك الأول، ويدل على خطأ الراوي في الحديث.

ولهذا؛ قال الإمام على بن المديني: «الباب إذا لم تجتمع طرقه، لم يتبين خطؤه».

فإن الاغترار بظواهر الأسانيد، ليس من شأن العلماء العارفين، ولا من شيمة النقاد المحققين، بل هو سمة المقصرين في تعلم العلم ومعرفة أغواره، وصفة العاجزين، عن مسايرة أهله، ومجاراة أربابه.

ولله در الشيخ الألباني - رحمه الله - حيث قال بصدد حديث اغتر البعض بظاهر إسناده:

«إن ابن حزم نظر إلى ظاهر السند، فصححه؛ وذلك مما يتناسب مع ظاهريته،

أما أهل العلم والنقد، فلا يكتفون بذلك، بل يتتبعون الطرق، ويدرسون أحوال الرواة، وبذلك يتمكنون من معرفة ما إذا كان في الحديث علة أو لا؛ ولذلك كان معرفة علل الحديث من أدق علوم الحديث، إن لم يكن أدقها إطلاقًا ... ».

وقال أيضًا:

«إن الحديث الحسن لغيره، وكذا الحسن لذاته، من أدق علوم الحديث وأصعبها، لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته، ما بين موثق ومضعف، فلا يتمكن من التوفيق بينهما، أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عمليًا مدة طويلة من عمره، مستفيدًا من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد، عارفًا بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم، حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب، قل من يصير له، وينال ثمرته، فلا جرم أن صار هذا العلم غريبًا بين العلماء، والله يختص بفضله من يشاء».

وما أحسن قول الحافظ ابن رجب، حيث قال بصدد حديث اتفق أئمة الحديث من السلف على إعلاله، واغتر بعض المتأخرين بظاهر إسناده؛ قال:

«هذا الحديث؛ مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق ... وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء؛ يظنون أن كل حديث رواه ثقة فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث، ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين؛ كالطحاوي والحاكم والبيهقي».

وأئمة الحديث؛ حينما يعتبرون الراوية بغيرها؛ لا يكتفون بالمرفوعات فحسب؛ بل ينظرون أيضًا في الموقوفات التى تروى في الباب، فإن الحديث الذي روي مرفوعًا قد يكون الصواب فيه الوقف، فبدون معرفة الموقوفات التى في الباب لا يتبين لنا أخطاء الرواة، وكذلك المراسيل، فبدون معرفتنا بالمراسيل التى تروى في الباب لا يتبين لنا خطأ من روى الحديث موصولاً والصواب أنه مرسل.

ولهذا؛ كان الإمام أحمد - عليه رحمة الله - ينكر على من لا يكتب من الحديث إلا المتصل، ويدع كتابة الأحاديث المراسيل، ويعلل ذلك: بأنه ربما كان المرسل أصح من حيث الإسناد، فيكون حينئذ علة للمتصل، فالذي لا يكتب المراسيل من الأحاديث تخفى عليه علل الأحاديث الموصولات خطأ.

قال الميموني: تعجب إليَّ أبو عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - ممن يكتب الإسناد ويدع المنقطع.

ثم قال: «ربما كان المنقطع أقوى إسنادًا وأكثر».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير