تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويتثبتُ في أحكامهِ ومواقفه.

وإنَّ منهجَ التثبت في القولِ والنقلِ والسماع، لا يستغني عنه مسلمٌ مهما كان مستواهُ من العلم والثقافة، فالعالم في تعليمه العلم، لا بدَّ له من التثبت فيما ينقلُ من العلم والأقوال والروايات، والقاضي لا بدَّ له من التثبت من البيانات والشهود، وتفاصيلِ القضايا، والمفتي لا بدَّ لهُ من التثبتِ من الأدلةِ، وتفاصيلِ الواقعةِ التي يريدُ أن يفتي فيها، والداعيةُ لابدَّ له من التثبتِ فيما يدعو الناس إليه بأنَّهُ الحق، كما أنه محتاجٌ إلى التثبتِ في نقل الأخبارِ وسماعها، وفهمها والحكم عليها، وعامةُ الناس محتاجون إلى التثبتِ فيما يتناقلونه من الأخبار، ويسمعونها عن الأشخاص أو الهيئات أو الأحوال، وبقيةُ طبقاتِ الناس من إعلاميين وتجار، وساسةَ وعسكريون ... إلخ.

كل أولئك مُحتاجون إلى هذا المنهج السابق، الذي أوصى الله عز وجل به، وإلاَّ يأخذ به المسلمون في حياتهم وتعاملاتهم تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.

ويمكن إرجاع أصول التثبت إلى الأصول التالية:

1 - التثبت من صحة الكلام المسموع أو المقروء: وثمرة هذا الأصل الاطمئنان إلى صدق الخبر المسموع أو المكتوب، لأنَّ الخبر قد يكون كذبًا، والرواية قد تكون مختلقة، وعندها يُرفض الخبر وترد الرواية، ويسلمُ الإنسان من نقلِ الأخبارِ المكذوبة والشائعات.

2 - التثبت من دقة كلام المتكلم ووضوح عبارته:

فقد يكون أصلُ الخبر صحيحًا، والمتكلم به غير متهمٌ بالكذب، ولكن قد يتبينُ أنَّ الخبرَ ليس كما نقل، وذلك لعدمِ دقةِ المتكلمِ به في عباراته وعدم استطاعته الإفصاح عما يريد، أو أن نقلهُ للخبر كان بأسلوبٍ ركيكٍ غامض، جعلَ السامع يفهمُ منه غير المقصود، ومن هُنا تنشأ الشائعات إذا تسلسل النقل بهذه الطريقة، ومن هنا يجبُ التثبت من دقةِ عبارةِ المتكلم ووضوحها.

3 - التثبت من دقة فهم السامع واستيعابه:

في هذه الحالة قد يكون المتكلم بالخبر دقيقًا في عبارته وأدائه، وهو صادقٌ فيما ينقل، ولكن التثبت ينصبُّ في هذه الحالة على دقةِ فهمِ السامع للكلام المنقول، فقد يكونُ السامع بطيءُ الاستيعاب، سيءُ الفهم، فيفهمُ الكلامُ على غيرِ مقصودهِ، فينقلهُ بعد ذلك لغيرهِ بفهمهِ الخاطئ، ومن هُنا أيضًا تبدأ الإشاعات والأكاذيب، مع أنَّ الناقلين لم يؤتوا من كذبهم فهم صادقون، ولكنهم أتوا من سوءِ فهمهم، وقلة انتباههم، ومن هنا يجبُ التثبت من أنَّ السامع قد فهم الفهم الدقيق الصحيح لما سمع.

وهذه المراحلُ الثلاث من التثبت لا بدَّ للمسلم أن يعيها وهو يتكلمُ بالأخبار، أو يسمعها؛ حيثُ يجبُ عليه تقوى الله عز وجل، فلا يقولُ ولا ينقلُ إلاَّ صدقًا، وإذا تكلم فليكن منتبهًا في كلامهِ، دقيقًا في عبارتهِ، حتى لا يفهمَ عنهُ الكلامُ على غير حقيقته، وإذا سمع فليرع سمعهُ، ويحضر ذهنهُ حتى يكون فهمه دقيقًا مستوعبًا لما قيل.

وكما هو مطلوبٌ منه أن يتثبت من هذه الأمور في نفسه، فمطلوبٌ منهُ أن يطمئن على وجودها أيضًا في غيرهِ من الناقلين والسامعين.

ولقد كان السلف - رحمهم الله تعالى- حريصين أشدَّ الحرص فيما يقولونهُ ويسمعونهُ من الفتاوى والأقوال، على هذا المنهج الرباني الكريم، ومن ذلك ما تواتر من الروايات المنقولة عنهم في تحريمهم للإفتاء بغير علم وأن لا يفتي العالم في مسألةٍ حتى يفهم واقعها وصحة دليلها، ولا يروي روايةً إلاَّ بعد التثبت من صدقها وصحتها.

ومن ذلك ما نقلهُ ابن القيم- رحمه الله تعالى- في آداب المفتي والمستفتي، حيث يقول:» وكان أيوب إذا سألهُ السائل قال له: أعد، فإن أعاد السؤال كما سألهُ عنه أولاً أجابه، وإلاَّ لم يجبه، وهذا من فهمهِ وفطنتهِ- رحمه الله تعالى-، وفي ذلك فوائدَ عديدة: منها أنَّ المسألة تزدادُ وضوحًا وبيانًا بتفهم السؤال، ومنها أنَّ السائل لعلهُ أهمل فيها أمرًا يتغيرُ به الحكم، فإذا أعادها ربما يتبينُ له، ومنها أنَّ المسئول قد يكونُ ذاهلاً عن السؤالِ أولاً، ثم يحضرُ ذهنه بعد ذلك، ومنها: أنَّهُ رُبما بان له تعنت السائل، وأنَّه وضع المسألة؛ فإذا غيَّر السؤال، وزاد فيه ونقصَ فرُبما ظهر لهُ أنَّ المسألةَ لا حقيقة لها، وأنَّها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجبُ الجواب عنها)) [6] أهـ.

ومن هذا النقل يتبينُ لنا بعض جوانب التثبت التي سبق الإشارة إليها.

نسألهُ سُبحانه الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونعوذُ به من أن نقترف على أنفسنا سوءًا أو نجرهُ إلى مسلم، والحمد لله رب العالمين.


[1] تفسير ابن كثير عند الآية 36 من سورة الإسراء.
[2] البخاري (5143)، ومسلم (2563).
[3] أبو داود في الأدب (4972)، وفي صحيح سنن أبي داود (4158)
[4] أحمد 2/ 92 من حديث ابن عمر.
[5] في ظلال القرآن عند الآية (36) من سورة الإسراء.
[6] إعلام الموقعين 2/ 187.

المصدر: [هنا ( http://www.islamlight.net/aljiliyl/index.php?option=*******&task=view&id=1490&Itemid=5)]

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير