تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا، وقد عقد الأستاذ الجندي مقاربة نسبية بين تميم وقريش من خلال استقراء كتب النحو المشتهرة مثل كتاب سيبويه وشرحه للسيرافي وشرح مفصل الزمخشري لابن يعيش وشرح التصريح للشيخ خالد الأزهري وهمع الهوامع للسيوطي وشرح الأشموني والخزانة للبغدادي، وكتب الصرف ودواوين الشعراء والمعاجم والأمالي وعلوم القرآن، بلغت في مجموعها ثلاثين مصدرا موثوقا ومحتكما إليه عند جميع اللغويين .. فَوُجِدَ أن النسبة المئوية للهجة التميمية تقارب سبعة من المائة، أما لهجة قريش فإن نسبتها في هذه المصادر لا تربو على أربعة أعشار من واحد من المائة. فهل يقول قائل بعد هذا إنها اللهجة الأولى في كتاب الله تعالى وهي وحدها بين لغات العرب جميعا، التي بها تحدى الخطباء اللُّد والفصحاء اللُّسن؟ حتى زعم الرافعي في آدابه بأنها معجزة كونية خرقت كل القوانين؟! .. ولكي أكون دقيقا أكثر فهاكم مسألة من مسائل النحو تدل على حجية اللهجة التميمية مثلا وقوتها. يرى سيبويه في الكتاب أن ما الحجازية أكثر استعمالا وإن كانت التميمية أقوى قياسا، وجاء في معاني القرآن للفراء بأنها أقوى الوجهين في العربية .. هذا، وإن كثيرا من الرواة يخلطون بين لهجة الحجاز ولهجة قريش ويعدونهما لهجة واحدة مع أن الفرق بينهما بَيِّنٌ كشمس الضحى،بل نرى أبعد من ذلك إذ نجد فرقا في اللهجة بين قريش البِطاح وقريش الظواهر، وأما اعتماد من نصر قريشا على غيرها على نصوص لا تقوم للاحتجاج مثل قول الله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم. إذ القومية المقصودة في الآية عامة تشمل جميع العرب بدليل قوله تعالى: بلسان عربي مبين، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم عشر مرات، وبصرف النظر عن ظواهر الهمز والإدغام والإمالة .. هذا غيض من فيض مما رأيته على ما قدمت من بطلان نسبة الفصاحة إلى قريش وحدها. ويبقى استدلال أخير ذكره مقدسو اللهجة القرشية، هو أمر عثمان بن عفان كتبة المصحف بأن ينقلوا عن قريش إذا أشكل عليهم الحرف. وهذا هو الإجحاف بعينه في حق كلام العرب جميعا، فكيف نوفق بينه وبين الأحرف السبعة التي أوردها السيوطي في الإتقان حتى بلغت عنده خمسة وثلاثين قولا، ومدارها في الغالب على لهجات العرب الموزعة؟ فالاحتكام المقصود – والله أعلم – هو في محل اجتماع العرب ولقياها أو على الترغيب لا التغليب، إذ يصعب على كاتب المصحف استقصاء جميع أحرف القرآن الكريم من لغات مشتتة في كتاب واحد، وإلا كيف العمل مع ما نزل من القرآن الكريم في مواطن ليس لقريش اتصال بها من بعيد ولا من قريب؟ في المكي من القرآن والمدني والحضري والسفري والأرضي والسماوي .. وما السر في اختلاف عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم رضي الله عنهما المشهور في آيات الفرقان مع أنهما من قريش الأباطح؟ أبعد هذا يصح ذلك الزعم أوتقوم تلك الحجة؟! إن من أبلغ الأقوال في النكير على المنتصرين لهذه اللهجة وحدها، هو أنه كما جمع الله تعالى العرب على دين واحد فقد جمعهم على لغة واحدة، و مع ما في هذا الجمع من التحدي والإعجاز لهذا الكتاب الخالد من مُكنته جمع لغة واحدة بلهجات قد يعجز الواحد من أرباب العربية على عدها، وكلها قد نطقت بها العرب ..

وآخر ما وقع بين يدي من تواليف تعالج هذه القضية الساخنة، هو مؤلف أستاذ أزهري آخر، أُجِلُّه كثيرا كما يجله غيري من المنصفين، وأقصد به د. عبده الراجحي الذي تناول المسألة بتحقيق مستفيض في كتابه القيم: اللهجات العربية. فبعد أن نقل إجماع اللغويين والكتاب قديما وحديثا، بدءاً من الصاحبي والاقتراح والمزهر والهمع ووصولا إلى الخولي في مشكلاته والرافعي في تاريخ آداب العرب وطه حسين في أدبه الجاهلي وإبراهيم أنيس في مستقبل اللغة العربية وشوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي وسعيد الأفغاني وغيرهم، خلص إلى قوله:

ومع ذلك كله فإن آراء الدارسين المحدثين لا تقوم على أساس لغوي علمي صحيح، لأننا لا نستطيع أن نحكم على لغة من اللغات خلال أقوال الرواة عنها، خاصة وأن هذه الأقوال ذاتها ينبغي أن نأخذها بشيء كبير من الحيطة والحذر لأنها لم تصدر إلا عن تمجيد لقبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم ... أما وأننا لا نملك نصوصا ولا نعرف شيئا عن تطور هذه اللهجة، لأنا وجدنا أنفسنا فجأة أمام لغة نموذجية مشتركة قال لنا عنها القدماء وتبعهم المحدثون إنها لغة قريش، فإننا نظن أن ذلك كله أمام المنهج اللغوي العلمي ليس إلا ضربا من الحدس والتخمين. ا. ه

إن حكما في مسألة ما أو على أمر جرت العادة على قبوله وترداده أو على قول من قال: يأيها الناس اتبعوا الناس .. هو جميعه هذٌّ وخلط وخبط وسبهلل .. يأباه العقل ويرفضه منطق العلم الحديث، خاصة إذا تعلق أمر ذلك الحكم بمسألة هي من صميم القرآن الكريم .. وأجدني في هذه السانحة ملزما بأن أنبه نفسي وإخواني إلى ضرورة مراجعة كتب القراءات، وأخص منها مبحث الأحرف السبعة والقراءات المتواترة،لأن فيها قسطا وفيرا يفي بغرض هذا الموضوع. وقد أجاد السيوطي في إتقانه وأفاد في ذلك، حيث وزع لغة القرآن الكريم على ألسنة العرب جميعا دونما انحياز إذ الأصل في النقل هو السماع والتلقي عن أفواه القراء المخبرين عن رب العالمين من شفاه سيد المرسلين ..

أرجو أن أكون قد وفقت إلى قصد لن ألام فيه على ما سبق بيانه، كما أطلب من إخواني إيعازي إلى كتب أخرى تبين صواب الكلام وتظهر شطط القول، فإني أنتظر ردودا على عجل .. والله من وراء القصد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير