فلما وقف المكعبر على ما جاء في الرسالة أوعز إلى طرفة بالهرب لما كان بينه وبين الشاعر من نسب، فأبى. فحبسه الوالي وكتب إلى عمرو بن هند قائلاً: "ابعث إلى عملك من تريد فاني غير قاتله".
فبعث ملك الحيرة رجلاً من تغلب، وجيء بطرفة إليه فقال له: "إني قاتلك لا محالة .. فاختر لنفسك ميتة تهواها".
فقال: "إن كان ولا بدّ فاسقني الخمر وأفصدني". ففعل به ذلك.
شعره:
شعر طرفة قليل لأنه لم يعش طويلاً. ولكنه حافل بذكر الأحداث، ويعكس أفكاره وخواطره بالحياة وبالموت، وتبرز فيه الدعوة لقطف ثمار اللذة الجسدية والمعنوية قبل فوات العمر.
وقد ترك لنا طرفة ديواناً من الشعر أشهر ما فيه "المعلّقة". وقد قال عنه ابن سلام أنه اشعر الناس بواحده , يقصد المعلقة.
ويحوي الديوان 657 بيتاً، أما المعلقة فيبلغ عدد أبياتها (104) بيتاً وهي على البحر الطويل. ومن موضوعاتها:
1 - الغزل - الوقوف على الأطلال ووصف خولة.
2 - وصف الناقة.
3 - يعرّف نفسه ثم يعاتب ابن عمه.
4 - ذكر الموت، ووصيته لابنة أخيه أن تندبه.
مختارات من معلقة طرفة بن العبد تدور حول عدة مواضيع:
نسيب:
لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيَّهم
يقولون لا تهلك أسىً وتجلَّدِ
الإعتداد بالنفس:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلتُ أنني
عُنيت فلم اكسل ولم اتبلَّدِ
ولستُ بحلاّلِ التلاعِ مخافةً
ولكن متى يسترفدِ القومُ أرفِدِ
خواطر وآراء:
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى
وأنْ أشهدَ اللذاتِ، هل انت مُخْلِدي؟
فإن كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيّتي
فدعني أبادِرْها بما ملكَتْ يدي
ولولا ثلاثٍ هنَّ من لذّةِ الفتى
وجدِّكَ لم أحفلْ متى قام عُوَّدي
فمنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشربةٍ
كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
حكم:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وَقْعِ الحسامِ المهنَّدِ
ستبدي لكَ الايامُ ما كنتَ جاهلاً
ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تُزَوِّدِ
طرفة بين فكّي التاريخ:
طرفة الشاعر الجاهلي المبدع عانى من ظلم الأقرباء وهو أشنع ضروب الاستبداد لأنه يأتي من الأيدي التي نحبها والتي نظنّ أننا نأمن شرّها. ولم تمهله المؤامرات التي حيكت ضده كثيرا فمات في ربيع عمره عن 0 (26) عاما، حيث قتل بوحشية لا لذنب اقترفه سوى إبداعه وإن كان بالهجاء.
سقط الشاعر ضحية لخلاف شخصي مع الملك. وإذا صحّت الرواية حول موته وأنه حمل الكتاب الذي يحوي أمراً بقتله، فإنّ هذا يدلّ على مدى عزّة النفس والثقة التي كان طرفة يتمتّع بها، وإن كانت في آخر الأمر، سبب مقتله.
بمقتل طرفة بن العبد في ربيع عمره وفي بداية عطائه حرم عشاق الأدب العربي والباحثين في علوم الصحراء والبداوة وتاريخ العرب من مصدر خصب كان يمكن أن يزوّدهم بالمعلومات التي يحتاجونها، وحرموا من عطاء خيال مبدع.
وتبقى معلّقة الشاعر شاهدا على مجد صاحبها وعلى الظلم والنهاية المؤلمة للشاعر.
جوانب تحليلية:
أ. الأفكار والمعاني:
عاش طرفة بن العبد حياة مضطربة، مليئة بالمتناقضات، فقد شب يتيما، وأساء أعمامه تربيته، فاندفع وراء أهوائه يبذر ماله ويعاشر النساء، وتنقل في البلاد تارة يغزو وطورا يأوي الى مغاور الجبال، حتى اذا ضاقت نفسه ونبذ من قبيلته استعلمت نفسه شعرا فيه السخط على الأقرباء وغيرهم، وخاصة على ابن عمه الذي ادعى انه استولى على جمال أخيه معبد وهو الذي استهان بالموت وعاش من أجل الملذات.
الأبيات التي نحن بصددها من معلقة طرفة، تتضمن أغراضا كثيرة عبر عنها الشاعر. وهذه الأبيات تبرز جانبا من فلسفته في الحياة، وقد تضمنت هذه الأبيات المختارة الأفكار التالية:
- حياة الانسان ليست خالدة: وكل نفس ذائقة الموت، لذا مال الى اشباع نفسه في حياته قبل موته، بإنفاق المال وخوض المعارك.
- لخص رغباته وميوله بثلاث ملذات، وان حققها فلا يخشى الموت ان داهمه. والملذات هي: شرب الخمر، اغاثة المستغيث، ومعاشرة النساء.
- فضل هذا الشاعر الكرم واشباع الجسد والنفس في الحياة على الحرص والبخل، وأعطى تشبيها واقعيا على ذلك، فقال ان قبر الكريم لا يختلف عن قبر البخيل.
¥