- ومن تأصيله لقواعد عامة في النحو ما ذكره في الفرق بين (بلى) و (نعم) مستفادة من تأويله بقوله تعالى:) بلى من كسب سيئة ((28) قال:" وأما (بلى) فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما نعم إقرار في الاستبهام الذي لا جحد فيه، وأصلها بل التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: ما قام عمرو بل زيد، فزيدت فيها الياء ليصلح عليها الوقوف إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد، وتكون أعني (بلى) رجوعا عن الجحد فقط وإقرار بالفعل الذي بعد الجحد فدخلت الياء منها على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ (بل) على الرجوع عن الجحد" (29).
تخريجه لعدد من الآيات الكريمة تخريجا نحويا معززا بالشواهد:
اعتمد ابن جرير على الشواهد النحوية أيضا في تخريجه لعدد من الآيات تخريجا نحويا يتفق مع المعنى الذي يقتضيه النص القرآني. ومن تخريجاته ما يلي:
- تخريج) إن هذان لساحران ((30): من ظوهر المثنى التي ارتبطت بآية من آيات القرآن وأثارت نقاشا وجدا لا بين العلماء قديما وحديثا إعراب كلمة (هذان). فالقياس أن تكون بالياء (هذين) نصبا لوجود (إن). قال الطبري:"والصواب من القراءة في ذلك عندنا (إن) بتشديد نونها و (هذان) بالألف لإجماع الحجة من القراءة عليه. وأنه كذالك هو في خط المصحف. وأقر في جميع الأحوال الإعراب على حال واحدة وهي لغة بلحرث بن كعب وخثعم وزبيد ومن وليهم من قبائل اليمن" (31). وهذا التخريج اختاره ابن يعيش فقال: "فأمثل الأقوال فيها أن تكون على لغة بني الحارث في جعلهم المثنى بالألف على كل حال" (32).
وكذلك أبو حيان في تفسيره بإسناده هذه اللغة إلى عدد من العشائر العربية "والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما، وهي لغة الكنانة، حكى ذلك أبو لخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد، وأهل تلك الناحية حكى ذلك عنهم الكسائي" (33).
- تخريجه) وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين (: من الظواهر النحوية التي بحث فيها الطبري ووجه من خلالها القراءة التي اختارها ظاهرة الاتباع في الإعراب مع استقلال في المعنى (إلى حد ما) لكل من التابع والمتبوع.
هذه الظاهرة التي أثارت خلافا بين العلماء ودار النقاش حولها بينهم: وذلك في كلمة (أرجلكم) من قوله تعالى:) وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ((34). فقد رأى بعض العلماء أن (أرجلكم) جر على الجوار (35)، ورفض كثيرا من العلماء هذه الظاهرورأى بعضهم أنها تقع قليلا في النعت ولا تقع في العطف (36). وأعرض هنا رأي الإمام الطبري حيث قال: «اختلفت القراء (37) في قراءة ذلك فقرأه جماعة من قراء الحجاز والعراق) وأرجلكم إلى الكعبين (نصبا فتأويله: إذ قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون الأرجل منصوبة عطفا على الأيدي. وتأول قارئو ذلك كذلك أن الله جل ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها. وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق بخفض الأرجل وتأول قارئو ذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها وجعلوا الأرجل عطفا عل الرأس فخفضوها لذلك.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا (اسم ماسح غاسل)، لأن غسلهما إمرار اليد أو مقام اليد عليهما فإذا فعل ذلك بهما فاعل هو غاسل ماسح" (38).
- المخالفة في الإعراب بين المتعاطفين: ففي تأويله بقوله تعالى:) ولَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِم ِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء ((39) قال": وأما (لصابرين) فنصب وهو من نعت (من) على وجه المدح، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذم بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا. كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
¥