فحجية الإجماع وحجية القياس وحجية العموم وغير ذلك من القواعد الأصولية كلها مأخوذة من أدلة ونصوص تفوت الحصر، بحيث يثبت بها القطع أو التواتر المعنوي، ولو رام رائم أن يثبت أيا من هذه القواعد بنص معين أمكن إيراد الإيرادات على استدلاله بحيث تقدح فيه، أو على الأقل تجعله ضعيفا.
وينبغي أن نفرق بين بحث المسائل الأصولية وبين بحث المسائل الفروعية، فإنه من السهل عادة أن تبحث مسألة فروعية في استحباب شيء أو كراهته استنادا إلى عموم حديث أو ظاهر آية أو نحو ذلك، أما القواعد الأصولية فلا يصح الاستدلال عليها بنحو ذلك من الأدلة منفردة، وإنما يكون البحث فيها باستعمال الاستقراء لجميع الأدلة الشرعية في سياقاتها المختلفة بحيث يستخرج من كل منها ما يشير إليه مطابقة أو تضمنا أو التزاما.
فمن أراد أن يتكلم في حجية القياس فلا يصح أن يستند إلى نص بعينه منفردا في حجيته أو إلى نص بعينه في منعه؛ لأن كل طرف من الطرفين يسهل عليه أن يفعل هذا، ولا ينفعك دليل واحد إذا كان يخالفه مئات الأدلة الأخرى.
والنكتة هنا هي لزوم التفريق بين دلالة الدليل وبين ما يفهمه الناظر من الدليل، فأنت عندما تستدل بدليل إنما تستدل في الحقيقة بفهمك لهذا الدليل، فقد يكون فهمك صحيحا، وقد يكون خطأ، وإنما يعرف هذا بالنظر في أمرين: الأمر الأول: في فهم باقي العلماء لهذا الدليل، والأمر الثاني في دلالة باقي الأدلة على هذا المدلول، فإذا وجدت أن جميع الأدلة تتفق على الدلالة المشتركة التي تريد الاستدلال عليها، فحينئذ يخرج الدليل من الظنية إلى القطعية، وتثبت القاعدة بالاستقراء، أما إذا وجد اختلاف في دلالة الأدلة، فحينئذ ينظر إلى أقواها دلالة، وحينئذ يتسع المجال لاختلاف آراء العلماء.
ولكي لا أترك المجال بغير فائدة، فإنه من عجائب الاتفاقات أنني قد خطر في بالي أن أستقري المواضع التي تدل على حجية الإجماع من القرآن الكريم، فجمعت قدرا لا بأس به من الآيات، وها هي ذي، ويمكن الناظرَ أن يستخرج أدلة أخرى من البابة نفسها، وغني عن البيان أن دلالة كل منها تختلف قوة وضعفا على المراد، ولكن المراد - كما سبق ذكره - الدلالة الإجمالية التي تتقوى بالمجموع.
وبعضها يكون وجه الدلالة فيه خفيا، فأتركه لذكائكم:
- {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي}
- {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}
- {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}
- {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين}
- {ولا تكونوا أول كافر به}
- {ويتبع غير سبيل المؤمنين}
- {فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك}
- {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}
- {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
- {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}
- {فأتوا بسورة من مثله}
- {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
- {فإن تنازعتم في شيء}
..... إلخ إلخ
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[11 Sep 2008, 01:51 ص]ـ
أشكر أخي العزيز أبا مالك العوضي على تعقيبه النافع، وما سرده في آخر تعقيبه هو ما قصدته مع بيان وجه الاستدلال إن تيسر ذلك لاحقاً إن شاء الله.
ـ[نزار حمادي]ــــــــ[11 Sep 2008, 02:24 ص]ـ
تعقيب نافع فعلا ..
وهذه بعض التعليقات عليه:
1 ـ أدلة حجية الإجماع ظنية، ولا ترتقي إلى القطع بحال من الأحوال. وإنما القطعي هو العلم بوجوب العمل بتلك الحجة، بناء على جواز إعمال الظنون في الفرعيات، بل وجوبه في حق المجتهدين. فالظن له مصادره ومجالات العمل به، والقطع له مصادره ومجالات العلم به. والظن يصير قطعا استنادا إلى القطعيات، لا إلى الظنيات، فالظن مع الظن مع الظن لا يفيد إلا ظنا ما لم ينضم إليها قاطعا. والقطعيات لا تثبت من الظنيات.
2 ـ كون الظواهر إذا تكاثرت أفادت العلم، قاعدة تفتقر إلى استدلال ثم إجماع عليها ليعمل بها، فهي متوقفة على الإجماع أصلا، فكيف يثبت بها دليل الإجماع؟ أليس في ذلك دور قبلي.
3 ـ أقوى آية استدل بها على وجوب العمل بحجية الإجماع هي التي استشهد بها الإمام الشافعي وبين وجه دلالتها، ودفع عنها الأصوليون الانتقادات الواردة على وجه دلالتها، ولو كان غيرها من الآيات يرقى إليها من حيث جهة دلالتها على حجية الإجماع لأوردها الأيمة، فلا بأس بتدبر باقي الآيات ولكن لن تكون دالة على المقصود إلا من بعيد جدا دلالة غير معتبرة في إثبات حجية الإجماع. فالأولى على ذلك تركيز الكلام على تلك الآية وبيان وجوه دلالتها مع دفع الاعتراضات عليها. والله تعالى أعلم.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[11 Sep 2008, 02:49 ص]ـ
الأخ الكريم (نزار حمادي)
قولك (الظن مع الظن مع الظن لا يفيد إلا ظنا) هذا فيه نظر واضح.
ولو كان هذا صحيحا، لما كان هناك حديث متواتر، ولما كانت نصوص القرآن قطعية الثبوت، ولما كان هناك قطعيات في الشرع أصلا.
الحديث المتواتر ما هو؟ هو في الأصل رواية واحد ثم واحد ثم واحد حتى صار متواترا، فلو كان الاجتماع لا يفيد شيئا لما كان هناك شيء اسمه التواتر أصلا.
القرآن لماذا هو قطعي الثبوت؟ لأنه نقل إلينا بالتواتر، ولولا ذلك لما كان قطعيا.
هل يمكن أن يوجد نص في الشرع قطعي في دلالته؟
الجواب نعم، ولكن باجتماع أشياء أخرى مع هذا النص ترفعه من الظن إلى القطع.
أما أن يكون هناك نص قطعي في دلالته بانفراده من غير اجتماع شيء معه مطلقا، فهذا لا وجود له.
وبيان ذلك عند ذكر الاعتراضات العشرة المشهورة في أصول الفقه، فلولا ما يحتف بالنصوص من قرائن لما أمكن أن تفيد القطع مطلقا.
فمثلا قوله تعالى (وأقيموا الصلاة)، كيف عرفنا أن (أقيموا) فعل أمر؟ وكيف عرفنا أن كلمة (الصلاة) تفيد المعنى المعروف؟
الجواب: لا يمكن معرفة ذلك بدليل قطعي منفرد، وإنما عرف ذلك باستقراء كلام العرب، واستقراء النصوص الشرعية، والاستقراء لا معنى له إلا اجتماع دلالات ظنية كثيرة جدا حتى تفيد القطع.
أردت التنبيه باختصار فقط، والمسألة واضحة في نظري، إلا إن كنت تريد شيئا آخر غير ما فهمتُ.
¥