لما كان النظم هو المعجز دون المفردات – فإن المفردة اللغوية الواحدة تختلف اختلافاً ظاهراً من نظم إلى نظم ومن تركيب إلى آخر؛ يقول الجرجاني: (إنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موقع ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير، وإنما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح - مزية تحدث من بعد أن لا تكون وتظهر في الكلام بعد أن يدخلها النظم، وهذا شيء إن أنت طلبته فيها - وقد جئت بها أفراداً لم ترم فيها نظماً ولم تحدث لها تأليف - طلبت محالاً) ويقول أيضا: (هل رأيت أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة؛ إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وفضل مؤانستها لأخواتها)
وبهذا فقد اتضح أن الفصاحة لا تعلّق لها بمفردات اللغة في ذاتها؛ بل تكتسب ذلك من النظم والتركيب، ومعلوم أن المتكلم لا يفعل في مفردات اللغة شيئاً ولا يغير هيئاتها؛ وإنما يستخدمها كما هي؛ فلو أن كلمة "ضرب " في اللغة كانت "ربض" لما جاز للمتكلم أن يصلحها بل إنه إن فعل ذلك أفسد على نفسه وأفسد اللغة
ولما كانت الفصاحة ليست بصفة ذاتية في الألفاظ فإنك ترى الكلمة لطيفة جداً وفصيحة – حسب اللغة وحسب معايير اللفظيين - حتى إذا دخلت النظم اختلف بها الحال فقبحت؛ وإذا أردت مثالاً بيناً على ذلك فانظر إلى ألفاظ مثل (كنت، ولكن، كتم، ذاك، كما، كان) فهي كلمات فصيحة لا قبح فيها فإذا انضمت إلى بعضها وتلاقت ودخلت في التركيب والنظم وتكاملت قبحت كما في قول الشاعر:
لو كنت كتمت الحب كنت كما
كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن
وانظر كذلك في قول الآخر:
وقبر حرب بمكان قفر
وليس قرب قبر حرب قبر
وقول الآخر:
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه
ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
وقول الآخر
فقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا
قلاقل عيس كلهن قلاقل
كما أن المفردة قد تحلو في تركيب وتقبح في تركيب آخر؛ ومن ذلك لفظ "يؤذى" في قوله تعالى: "فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ " فإنك تراها جميلة رائقة حتى إذا نظرت إليها في قول المتنبي:
تلذّ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلذّ له الغرام
فإنك تراها قد جاءت في البيت ضعيفة فحطت من قدره؛ يقول ابن الأثير: (هذا موضع غامض يحتاج إلى فضل فكرة وإمعان نظر ... وهذه اللفظة التي هي (تؤذي) إذا جاءت في الكلام فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به؛ كما في قوله تعالى، أما قول المتنبي فقد جاءت فيه منقطعة ثم جاء بعدها بكلام مستأنف) ولأجل ذلك تراها في الحديث وقد أضيف إليها كاف الخطاب فأصلحها وأزال ما بها من ضعف وركة؛ وهو قول صلى الله عليه وسلم: (بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك) ومن ذلك أيضا لفظ "الأخدع" في قول الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإصغاء ليتا واخدعا
وفي قول الآخر
وإني وإن بلغتني شرف الغنى
وأعتقت من رقّ المطامع أخدعي
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها في بيت أبى تمام.
يا دهر قوّم أخدعيك فقد
أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هنالك من الروح والخفة والإيناس والبهجة، ورغم أن الجرجاني قد أتى بهذا النموذج لإثبات هذا الدليل في النظم المعنوي الذي يتوخى فيه معاني النحو – إلا أن هنالك في الأبيات جانباً صوتياً شديد الأهمية؛ وهو أن الحروف في البيتين الأوائل قد خفت أجراسها ولطفت فجاء مسموعها كوقع نسيم الآصال، أما بيت أبي تمام فإنك ترى في نظمه أصواتا شديدة الوقع (القافات التي تكررت ثلاث مرات، والتشديد في "قوّم" وتكرير الجيم، وتكرير الخاء وتكرير الدال وتكرير الهاء) هذا فضلاً عن تثنية "أخدعيك" الشديدة الثقل، ولا بد لكلمة بثقل أخدعيك إذا دخلت على نظم ثقيل التركيب أن تزداد قبحاً فتمجها الآذان، ولهذا فإن للتركيب والنظم أثره الكبير جداً على المفردة، ولذلك يقول الجرجاني: (فإنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلما بأعيانها ثم ترى هذا قد فرع السماك وترى ذاك قد لصق بالحضيض)
4/ الاعتداد بالنظم الصوتي:-
¥