تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[17 Feb 2009, 10:38 ص]ـ

[مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]

هذه الآية اسْتُفْتِحتْ بها سورة طه _كما هو معلوم_.

فما أروعه من استفتاح، وما أبرعه من استهلال؛ حيث تَبَيَّن من خلاله أن هذا القرآن وما فيه من أوامرَ، ونواهٍ، وإرشاداتٍ، وقصصٍ، وأحكامٍ، وأخبارٍ _ إنما أنزل لمحض السعادة؛ لذا فإنه حقيق على المسلم الذي يؤمن بهذا القرآن ومُنَزِّلِهِ، والمُنَزَّل عليه _ أن يدرك هذا المعنى العظيم، ويستحضر أن جلبَ السعادة، وطردَ الهم من أعظم مقاصد تلك السورة، بل والقرآن والشريعة عموماً.

والتفسيرُ العمليُّ لذلك كان في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان أكثرَ الناس تبسماً، وبشراً، وطلاقة، وأنساً، ورضاً، وسروراً.

وما قعد به عن ذلك كثرةُ الآلامِ، والمصائبِ، والمشاقِّ التي تمر به.

وفي هذا إرشاد عظيم لمن يظن أن عبوسَ الجبين، وكَرَفَ العرنين، وتَجَهُّمَ الأسارير، وتَكَلُّفَ التوقُّرِ، واجترارَ المآسي، وسوادَ النظرةِ، وإساءةَ الظنِّ بالآخرين _ هو علامةُ التدين الصحيح.

لا، ليس الأمر كذلك، بل هو بعكسه تماماً.

ولو كان كذلك لكنا ندعو الناس إلى ما فيه شقاؤهم، وهَمُّهم، وتعاستهم؛ كيف يكون كذلك ونحن نقول بأفواهنا: إن الإسلام والتدين الصحيح هو سبيل السعادة في العاجل والآجل؟!

فحقيق على من آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً _ أن يستحضر هذا المعنى العظيم، وأن يكون على باله دائماً؛ فيستقبل الحياة وما فيها من تكاليف، ويقوم بما أمره الله به بكل ارتياح، وسرور؛ فإذا وُفِّق لما يرجوه من نجاح، وطاعة حَمِد اللهَ، واستمر على الطاعة، وإذا أتت الأمور على خلاف ما يريد تعزى بقدر الله، وإذا خذل؛ فوقع في المعصية استغفر، وتاب ورجع إلى مولاه.

وهكذا سيرته مع الناس؛ حيث يسعى سعيه لإرشادهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ فإذا حصلت الإجابة فبها ونعمت، وإذا كانت الأخرى لم تذهب نفسه عليهم حسرات.

فهذا سر من أسرار السعادة، وهو مما يحتاج إلى صبر ومراوضة، [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] (فصلت:35).

وإن مما يعين على تَمَثُّلِ تلك المعاني، وتَمَكُّنِها في قرارات النفوس أموراً منها:

1_ طهارة القلب وسلامة المقاصد: فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله، وفكره، وبواعثه؛ فإذا كان عمله حسناً، وقلبه طاهراً، ومقاصده سليمة _ كان منظاره الذي ينظر به إلى الدنيا صافياً نقياً، فرأى الحياة جميلة كما خلقت، فسعد بنفسه، وأسعد غيره، وإلا تَغَبَّش منظارُه، واسودَّ زجاجه، وساء ظنه بنفسه وبغيره، فرأى كل شيء أسودَ مُغَبَّشاً.

وهذا كله يدعو الحريص على إسعاد نفسه وقومه إلى أن يكون طاهر القلب، سليم المقاصد، بعيداً عن كل ما ينافي ذلك.

2_ البعد عن مواطن الإثارة قدر المستطاع: فمن علم أن شيئاً معيناً يُهَيِّجُهُ فلينأ عنه، وليبتعد عن الأوساط التي تسببه؛ فإذا تمت راحته تم فرحه وسروره.

ومما يحسن في هذا الصدد أن يحميَ المرءُ نفسَه من مؤثرات الخوف، سواء ما يثيره في نفسه، أو ما يثيره من حوله؛ فإن الخوف من الأمراض التي تنغص الحياة، وتذهب بالسعادة، فهو مرض خطير قل أن يسلم منه إنسان، وهو أشكال وألوان، وهو مما يوجه أعمال الإنسان طوع إشارته وحسب إيحائه، وهو في كثير من الأحيان يصد عن العمل، ويَشُلُّ قوة التفكير، ويسبب اليأس، ويفقد الأمل، مع أن أكثره أوهام لا حقيقة لها.

ورُبَّ أمورٍ لا تضيرك ضيرةً ... وللقلبِ من مخشاتهن وجيبُ

3_ قوة الاحتمال: ذلك أن من أكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس، وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما أن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حرج الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، فتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي _وأكثر منها_ لو حدثت لمن هو أقوى منه احتمالاً لم يُلْقِ لها بالاً، ولم تحرك منه نفساً، ونام ملء جفونه رضيّ البال، قرير العين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير