هَلْ وكَمْ
ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[07 Mar 2009, 03:17 م]ـ
هَلْ وكَمْ
جاء في مطلع معلقة عنترة المشهورة قوله:
هل غادر الشعراء من متردَّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
ومعنى قوله: غادر: أي ترك, وأبقى.
ومعنى متردَّم: أي مُتَتبّعٌ مُصْلَحٌ, من تردَّمَ الكلامَ: إذا تَتَبَّعه وأصلَحه.
ومعنى البيت: ما ترك الشعراء قَبْلي شيئاً مِنْ صالح الكلام إلا وسبقوني إليه.
أي لم يَدَعوا لنا شيئاً من المعاني, وصالحِ القول؛ فهذا هو معنى الشطر، وهو الذي يعنينا من البيت.
وجاء في ديوان البارودي أن الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي _وكان إذ ذاك شاباً_ سأل باعثَ الشعرِ العربيِّ في العصر الحديث محمود سامي الباروديَّ شيئاً من شعره الجديد، فقال البارودي: إن عنترة بن شداد العبسي يقول:
هل غادر الشعراء من متردَّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقد نَقَضْتُ هذه القصيدةَ بقولي:
كَمْ غادرَ الشعراءُ مِنْ متردَّم ... ولربَّ تالٍ بذَّ شأْوَ مُقدَّمِ
في كل عصرٍ عبقريٌّ لا يَنِي ... يَفْرِي الفَرِيَّ بِكُلِّ قولٍ مُحْكمِ
إلى آخر ما قال في تلك القصيدة التي تبلغ ثلاثة وخمسين بيتاً.
ومعنى قوله "تالٍ": اسم فاعل من تلا, أي تَبِعَه، وجاء بعده.
ومعنى قوله "بذّ": أي غلب, والشأو: الغاية, والفَرْيُ: القطع.
ومعنى البيت عكس معنى البيت الأول؛ فبينما يرى عنترة أن الأوائل لم يدعوا مهيعاً في الشعر إلا سلكوه، ولم يتركوا لمن بعدهم شيئاً _ فإن الباروديَّ يرى أن الإبداع غير مقتصر على الأوائل؛ فليس للإبداع مكان ولا زمان؛ فربما جاء المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ فما دام العقل البشري يتحرك فالإبداع ممكن، والتجديد وارد؛ فانظر إلى تباين الرؤية، وانظر إلى عظمة اللغة؛ حيث تَغَيَّر معنى البيت تماماً بمجرد إبدال أداة استفهام بأخرى.
والمقصود مما مضى إيراده أن هذه النظرة للإبداع قديمة حديثة؛ فهناك من يرى أن الأوائل لم يدعوا شيئاً للمتأخرين.
وهناك من يرى الأخذ بالجديد فحسب، والتخلي عما شاده الأوائل, ومن هنا تنشأ المعركة بين القديم والجديد.
وهي _بلا شك_ معركة ما كان ينبغي لها أن تقوم؛ إذ الحكمة تقتضي _كما يقول ابن عاشور_ أن نَعْمَدَ إلى ما شاده الأوائل فَنُهَذِّبَهُ ونزيده, وحاشا أن نَنْقُضَهُ أو نُبيدَه, فأولوا الأحلام الراجحة يأخذون بما يظهر من جديد صالح, ولا ينكثون أيديهم من قديم نافع.
وما أضر _كما قيل_ من مقولة: ما ترك الأول للآخر شيئاً.
وأَجْمِل بالمقولة الأخرى التي تقول: كم ترك الأول للآخر.
ولعل من أوائل من أشاروا إلى هذا المعنى العلامة اللغوي أحمد بن فارس-رحمه الله-.
وإليك شيئاً من رسالة له كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب؛ لتستبين مذهبه في ذلك، وتَلْمَسَ أسلوبه الأدبي، تلك الرسالة التي يتناقلها بعض المؤلفين إلى يومنا هذا، ويرون فيها عزاءً لمن لا يَقْدُرُون الإنتاجَ العلمي والأدبي قَدْرَهُ، ولا يرون التَمَيُّزَ إلا للقديم؛ فابن فارس يُبَيِّن فيها أن الحَسَنَ الجيدَ لا يختص به أحد دون أحد، أو زمان دون زمان، وينكر تلك المقولة التي وقفت سداً منيعاً أمام كثير من المبدعين، ألا وهي قولهم: (ما ترك الأول للآخر شيئاً).
ويرشد إلى أن يوضع مكانها: (كم ترك الأول للآخر).
يقول -رحمه الله- في رسالته: "ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبَّب إليك الإنصاف.
وسبب دعائي بهذا لك إنكارُك على أبي الحسن محمد بن علي العِجْلي تأليفه كتاباً في الحماسة، وإعظامك ذلك.
ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، وَيَرِد المنهل الذي يؤمه_ لاستدرك من جيد الشعر وَنقِيِّه، ومختاره ورضيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول؛ فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادةَ المتقدم؟ ولمه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر:
كم ترك الأول للآخر؟
وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمان رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام، ونتائج العقول؟!
ومَنْ قَصَر الآداب على زمانٍ معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثلما نظر الأول؛ حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل مثل رأيه.
¥