تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[علم التناسب]

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[17 Feb 2009, 06:03 م]ـ

إنّ التأمّل والتدقيق في تلويحات العلماء ليكشفان - بصورة واضحة جلية - أن في أغوار التأريخ السحيق علوما عظيمة قد انعجمت ومعارف جليلة قد اندرست؛ ورغم هذا الانعجام والاندراس إلا أن أضواء الآثار الشاهدة لا زالت تنبئ بأن جهودا جبارة قد كانت وأعمالا متميّزة قد وجدت؛ وإن كانت هذه الآثار تأبى أن تتجلى سافرة الوجه بادية الصفحة؛ إذ لا تعدو هذه الآثار أن تمثّل تنبيها على مكان الخبيء ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، ومن هذه العلوم التي اجتهد فيها الأقدمون فاندرست - علم جليل من علوم القرآن قد أشاد العلماء به ونوّهوا بمكانته الرفيعة، وهذا العلم الجليل قد اشتمل على رؤى متباينة ومناهج مختلفة، وهذا الاختلاف بين المناهج إنما يرجع إلى تعدّد جوانب هذا العلم وتكاثر موضوعاته من جهة، وإلى تباين خصائص الناظرين واختلاف بيئاتهم الفكرية من جهة أخرى؛ وهذا التباين بين الناظرين والدارسين قد حال - وبصورة مباشرة - دون وجود رؤية متكاملة تجمع أطراف هذا العلم وتلم أشتاته.

وهذا العلم العظيم الشأن الذي نوّه العلماء بمكانته الرفيعة قد عرف عندهم بـ"علم المناسبة" أو"التناسب"، والتناسب في اللغة هو: التقارب والتناسق والمشاكلة والترابط والتعلّق والانسجام، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن العظيم بصيغ متعددة في قوله تعالى:) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا (وقوله:) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا (وقوله:) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (والمراد بالتناسب ودراسته هنا هو: تلمس أوجه الترابط والانسجام في القرآن العظيم، ومعلوم أن لفظ "قرآن" ابتداء يدل - في لغة العرب - على الضم والجمع والتأليف الذي يشير إشارة جلية إلى التقارب والتناسب والترابط والتعلّق والانسجام؛ ولهذا يقول الجرجاني" إنما كان قرآناً وكلام الله عزّ وجلّ بالنظم الذي هو عليه "وقال تعالى:) كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ (ومن معاني الإحكام الإحكام في النظم والرصف والتأليف. ولا شك أن التناسب والانسجام ضد الاختلاف والتفاوت والاضطراب والتنافر؛ ولهذا يقول الله تعالى): أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (ولكن وبمفهوم المخالفة - كما يقول الأصوليون - فإن القرآن لما كان من عند الله فقد وجدوا فيه تناسقاً وتناسباً وانسجاماً عجيباً , ولأجل ذلك كانت قضية التناسب هذه قضية جوهرية في القرآن؛ لأنه منزّه عن الاختلاف والتضادّ والتفاوت، ومن هنا كانت لهذه القضية أهميتها التي يمكن أن تكمن في أمور كثيرة جدًا؛ منها الآتي:

1 - إن التناسب والانسجام من أهم السمات التي يتحقّق بتحقّقها الجمال وينتفي بانتفائها؛ إذ لابد لكل عمل بديع وصنعة مستحسنة من وجود آصرة تجمع المختلف منها والمؤتلف والمتشابه والمتباين , ولا ريب أن النظم المحكم والرصف المتفرّد والبناء المتلاحم من أهم الخصائص التي تكشف عن جمال القرآن العظيم؛ ومعلوم أن أهم محاسن الكلام - أن يرتبط بعضه ببعض وتلتئم أجزاؤه وتتفق مبانيه وتتناسب أطرافه وتنسجم مكوّناته؛ ويغدو سلس النظام خفيفا على اللسان حتى لكأنه بأسره كلمة واحدة؛ فيسلم بذلك من التفرّق والتنافر والتباين والاختلاف.

2 - ذهب كثير من العلماء إلى أن تلّمس التناسب ودراسة أوجه التعلّق والارتباط في القرآن من العلوم الشريفة التي تتكشف بتكشفها لطائف التنزيل وأسراره؛ يقول الإمام الرازي: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط "ويقول أبو بكر بن العربي: " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني - علم عظيم لم يتعرّض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عزَّ وجلّ لنا فيه، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه" وهذا العلم الذي هو علم دقيق المسالك خفي المدارك - يكشف للناظر المتأمّل اللطائف والأسرار التي عليها رتّب الله كتابه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير