ويقول ابن القيم أيضا: (تأمل الألفاظ التي فيها الميم؛ كيف تجد الجمع معقودا بها؟؛ مثل: لم ّ الشيء يلمّه: إذا جمعه ومنه: لم الله شعثه؛ أي: جمع ما تفرق من أموره، ومنه قولهم: دار لمومة؛ أي: تلمّ الناس وتجمعهم، ومنه: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا) وجاء في تفسيرها: يأكل نصيبه ونصيب صاحبه؛ وأصله من اللم وهو: الجمع، كما يقال: لفه يلفه، ومنه ألم بالشيء: إذا قارب، ومنه اللمم وهو: مقاربة، ومنه الملمة وهي: النازلة التي تصيب العبد، ومنه اللمة وهي: الشعر الذي قد اجتمع وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن، ومنه تمّ الشيء وما تصرف منها؛ ومنه بدر التم: إذا كمل واجتمع نوره، ومنه التوأم للولدين المجتمعين في بطن، ومنه الأم؛ وأم الشيء: أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له، وبه سميت مكة أم القرى والفاتحة أم القرآن واللوح المحفوظ أم الكتاب)
ويعلق ابن القيم على ذلك بقوله: (وهذا أكثر من أن يحاط به وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى، ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ورقة طبع ولا تتأتى مع غلظ القلوب والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها وتدبرها)
وقد ذهب ابن سينا إلى أن كل حرف من حروف اللغة يحكى صوتاً في الطبيعة؛ فالعين تشبه صوت إخراج هواء بعنف من مكان رطب، والقاف تسمع مثالها من فلق الأجسام وشقّها، والراء من تدحرج كرة على لوح
والحق أن العبرة ليست بدلالة صوت الحروف أو الكلمات المفردة على معانيها وإنما العبرة يدلالة صوت النظوم والجمل الكبرى على معانيها؛ وهذه مزية لا تتوفر في غير القرآن إلا نادرا جدا، ولما كان الأمر على الوجه الذي سبق فليس العبرة في تخيّر اللفظ لغرابته وإنما العبرة بتصويره للمعنى العام وانسجامه مع بقيه العناصر المكونة للكلام؛ ولذلك انتفت صفة الجزالة أو العذوبة المفردة وكانت العبرة بتكامل هذه المفردات وانسجام حروفها لتشكل كلا متكاملاً، وإذا أردت دليلاً بيناً على ذلك فانظر إلى تخيّر المفردات في القرآن حيث تتكامل المفردات فتحدث صوتاً ذا دلالة خاصة تناسب المعنى العام، وفي هذه الحالة لا تستقل المفردة يحرسها عن بقية المفردات؛ فإذا ما قرأت سورة الناس متوالية وجدت الألفاظ تصور وسوسة (الوسواس الخناس) تصويراً كاملاً، ومثلها سورة العاديات فإنك تجد في موسيقاها خشونة ودمدمة وفرقعة تناسب الجو الصاخب المعفر؛حتى تكاد تسمع فيه وقع السنابك وبعثرة القبور، والأمر كذلك في بعض الأعمال الإبداعية إذا بلغت في بعض جوانبها شأوا بعيداً من الإبداع؛ انظر إلى قول لبيد:
حتى إذا قلقت رحالتها وأسبل نحرها
وابتلّ من زبد الحميم حزامها
ألا ترى الحاءات المتتالية التي تكاد تسمع منها أنفاس الفرس وحمحمته
ولاشك أنك إذا تأملت قوله تعالى:
) َواشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا (
فإنك واجد صوت الاشتعال السريع الذي بصوره صوت الهمزة بانضمامها إلى الشين والتاء في (واشتعل) مضافاً إليها صوت السين والشين والياء في (الرأس شيباً) وقد حكى كل ذلك صوت النار في اشتعالها – ولعل ابن الفارض قد أحسّ بذلك فأراد اقتفاء أثره فأخفق في قوله:
سهم شهم القوم أشوي، وشوى سهم ألحاظكم أحشائي شيء
أي شيء مبرد حرا شوى للشوى حشو أحشائي أي شيء
لقد خانه التعبير فاصطدمت القصيدة بأبيات تخدش السمع بموسيقاها المتنافرة التى كأنها شوك يتقصف بين مشفري بعير
ولما كانت الألفاظ المفردة لا تعتبر لوحدها ولا تعرف المزية في أنفسها وإنما يعرف ذلك من خلال انضمامها إلى سائر أجزاء الكلام – فإن حلاوة الصوت أو جزالته وقوته ينبغي أن ينظر إليها من خلال تأديتها للمعنى العام ومن خلال النظم التي هي جزء لا يتجزأ منه.
وهذا المفهوم الذي حدّد للفصاحة في هذه الدراسة - بشروطه المتعددة- يمكن أن يطبّق في دراسة فصاحة القرآن؛ من خلال الكلمة داخل النظم والجمل والفواصل والسور وغيرها، وهذا التقسيم إنما هو تقسيم لأجل الدراسة؛، وتفصيل ذلك كالآتي:
فصاحة المفردات القرآنية:
¥