تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (تجد أن تكرار القافات والراءات والسينات كأنما يصور القرقرة والسكرات وخروج الروح، إنه مشهد الاحتضار، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ. وكذلك قوله تعالى:" مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً" انظر فيها إلى عبارة (مذبذبين بين) التي يسميها البلاغيون بالجناس المذيل أو المتوج، وإلى عبارة (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) تجد أن اللفظ يصور بجرسه موقف الذبذبة، والأرجحة والاهتزاز وعدم الاستقرار والثبات، وهي صورة كريهة - بلا شك - في حس المؤمنين؛ إذ تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز

وانظر كذلك إلى قوله تعالى:" أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" إن عبارة (جرف هار فانهار) التي يسميها البلاغيون بالجناس المرفق تصور بالفاءات المتكررة صوت الانزلاق وبالراءات المتكررة صوت التدحرج وبالهاءت والألفات المدى البعيد في الهاوية، إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات، والحركة في هذا المشهد سريعة عنيفة، إن البنيان قائم على حافة جرف مخلخل مستعد للانهيار، إن الصوت يصوره وكأننا نبصره؛ إنه يتأرجح؛ إنه ينهار؛ إنه ينزلق؛ إنه يهوي؛ إن الهوة تلتهمه؛ يا للهول! إنها نار جهنم.

وكذلك فوله تعالى: "فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ" انظر إلى هذه العبارة العذبة (فروح وريحان) التي تثير بحروفها الهامسة اللينة في النفس انبساطا وانشراحا ليس بعده انبساط وانشراح؛ يقول سيد قطب: (الألفاظ ذاتها تقطر رقة ونداوة وتلقي ظلال الراحة الحلوة، والنعيم اللين والأنس الكريم)

وانظر كذلك إلى قوله تعالى:) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (ومعلوم أن لفظي (اسطاعوا واستطاعوا) بمعنى واحد وهو الإشارة إلى القدرة والإمكان؛ إلا أنك تجد أنهما قد اختلفا اختلافاً بيناً في الناحية الصوتية، حيث جاء لفظ (اسطاعوا) الذي كأنه يصور صوت انزلاق القدم على السطح الأملس مع ذكر (يظهروه) أي: يعلوه، ومن الواضح أنهم لم يكن لهم من حيلة فيه من صعود لارتفاعه وانملاسه، ولكن التعبير القرآني قد عدل عن الإدغام في الموضع الآخر (استطاعوا) في مقام الخرق؛ وكأن فك الإدغام (تطا) إظهاراً لصوت الحفر في معدن السدّ، فانظر كيف اختلف الجانب الصوتي في اللفظ الواحد باختلاف المقامات والمواضع.

وانظر كذلك إلى قوله تعالى: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ"تجد أن الجو كله يسر وراحة ونعيم. والألفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني الرحيم، حتى "الحزن" لا يتكأ عليه بالسكون الجازم. بل يقال "الحزَن" بالتسهيل والتخفيف والنصب واللغوب لا يمسانهم مجرد مساس، والإيقاع الموسيقي للتعبير كله هادئ ناعم رتيب. ثم نتلفت فجأة إلى الجانب الآخر فنرى القلق والاضطراب وعدم الاستقرار على حال: فيطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء، متناوح من شتى الأرجاء، إنه صوت المنبوذين في جهنم: وهم (يصطرخون) فيها وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير